البيئة الدمشقية تشعل سوق الإنتاج الدرامي... وتثير السجال الفكري والفني!

دارت عجلة الإنتاج الدرامي السوري بقوة استعداداً لموسم رمضان القادم.... العديد من شركات الإنتاج بدأت تنتقل بمشاريعها الدرامية من صفحات الورق إلي مواقع التصوير... وعشرات الممثلين والمخرجين بدؤوا يعلنون عن مشاركاتهم في المسلسلات المزمع إنتاجها، وعن الصراعات الفنية التي يفضلون خوضها لدعم أعمالهم، وتسويق مضامينها إعلامياً منذ الآن.



ولعل أبرز خيوط الصراع التي تجلت بوادرها الأولية، هي تلك التي تتصل بمسلسلات البيئة الدمشقية، التي تشكل في إنتاج هذا العام محوراً هاماً من محاور المنافسة والسعي للاستئثار بأضواء الإعلام ورضا المحطات وإعجاب الجمهور.
وقد بات في حكم المؤكد بعد النجاح المنقطع النظير لمسلسل (باب الحارة) للمخرج بسام الملا، أن الجزء الثالث الذي تم التعاقد مع (إم. بي. سي) لإنتاجه وعرضه حصرياً، سيري النور حيث يعكف الكاتب محمد مروان قاووق علي كتابة حلقات الجزء الثالث منه، فيما بدأ مهندس الديكور حسان أبو عياش بإشراف المخرج بسام الملا، ببناء ديكورات المسلسل التي يستغرق إنجازها مدة لا تقل عن شهرين.
أما مسلسل (أيام ساروجة) للكاتب أحمد حامد، والذي سبق أن مر علي اثنين من المخرجين (هيثم حقي ـ باسل الخطيب) ثم أوقفت الشركة المنتجة عمليات التصوير بسبب ما قيل عن غربة المخرجين المذكورين عن البيئة الدمشقية وتفاصيلها الشعبية، فقد أوكلت مهمة إخراجه أخيراً إلي المخرج المخضرم علاء الدين كوكش الذي يعكف حاليا علي تصوير هذا العمل في القرية الشامية علي طريق مطار دمشق الدولي، ليرصد أجواء الحياة الشعبية في مدينة دمشق في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.... مع كوكبة مع نجوم الدراما السورية.
فيما يستعد الفنان عباس النوري أحد أبرز أبطال مسلسل (باب الحارة) لتقديم مسلسل بيئي دمشقي بعنوان (أولاد القيمرية) الذي كتبه بالتعاون مع حافظ قرقوط، وهو يتناول أجواء حي القيمرية الدمشقي العريق الذي ولد فيه عباس النوري، فيما يقوم بإخراجه سيف الدين السبيعي، لصالح قناة (أوربت) التي يشرف علي إنتاجها الدرامي في سورية المخرج هيثم حقي... وفي الإطار نفسه، ما زال الحديث جارياً عن جزء ثان من مسلسل البيئة الدمشقية (حصرم شامي) الذي كتب له السيناريو والحوار الكاتب فؤاد حميرة مستندا إلي كتاب (حوادث دمشق اليومية) للشيخ البديري الحلاق والذي أخرج الجزء الأول منه سيف الدين السبيعي، ومنعت الرقابة السورية عرضه في قنوات التلفزيون السوري بحجة أنه يسيء لعائلات دمشقية بالاسم، فيما انفردت بعرضه قناة (أوربت) العام الماضي... إلا أن مشروع الجزء الثاني لم يتم تأكيد إنتاجه، رغم الإعلان عن ذلك في وسائل الإعلام!
وبموازاة هذه المشاريع التلفزيونية، قامت المؤسسة العامة للسينما في سورية مؤخراً، بإنتاج فيلمين روائيين طويلين يتناولان بيئة دمشق... الأول فيلم (حسيبة) المستوحي من رواية بالعنوان نفسه للروائي الدمشقي خيري الذهبي، ومن إخراج ريمون بطرس... والثاني فيلم (دمشق يا بسمة الحزن) المأخوذ عن رواية بالعنوان نفسه أيضا، للروائية الراحلة ألفت إدلبي... ومن إخراج المخرج السينمائي ماهر كدو.


السينمائي نبيل المالح: الترويج لأخلاقيات سلفية!


وأمام هذا الكم من المشاريع الدرامية التي تستلهم البيئة الدمشقية في عقود خلت، يبقي السؤال: هل تحولت البيئة الدمشقية إلي مشروع استثمار تجاري، بعد النجاح الجماهيري والفني الكبير الذي حققه مسلسل (باب الحارة) العام المنصرم، وإلي أي حد يمكن لهذه المشاريع أن تشوش علي بعضها بعضاً خلال عرضها في موسم رمضان المنصرم؟! وهل تمتلك كل هذه المشاريع إيمانا حقيقيا بقيم ومعطيات تلك البيئة.... وهل هي قادرة بالتالي علي تقديم رؤي درامية صادقة في التعبير عن روح المدينة العريقة وتراثها وثقافتها؟
أسئلة من هذا القبيل حملتها القدس العربي إلي بعض أصحاب تلك المشاريع من المخرجين والممثلين، وإلي غيرهم من المهتمين بالشأن الفني والدرامي... علها ترسم في ثنايا إجاباتهم صورة عن منطلقات وأهداف هذه الأعمال وهي تبحث لها عن موطئ قدم في خارطة العرض الرمضاني القادم.
بداية رأي المخرج السينمائي نبيل المالح أن: معظم هذه الأعمال تجارية محضة وقال في تصريح خاص لنا:
أنا بقناعتي اري أن معظم هذه الأعمال تجارية محضة.... وعلي اعتبار أنني ولدت وتربيت ونشأت في دمشق، فمن الصعب القول ان هذه المسلسلات تمثل دمشق التي أعرفها. لقد لاحظنا في بعض تلك المسلسلات أن هناك تغييباً لأشياء كثيرة مهمة صنعت تاريخ المدينة، وبلورت هويتها وفرادتها... كان هناك تغييب لنوعية الرجال الذين صنعوا الاستقلال، ولأحلام النساء وطموحاتهن وإشكاليات حياتهن، مقابل حضور لأخلاقيات سلفية تحاول أن تستعيد وجودها علي السطح وخاصة ضمن التوجهات الإسلاموية القائمة اليوم في طول الوطن العربي وعرضه .
ويتابع المخرج السينمائي نبيل المالح انتقاده العنيف لموجة هذه الأعمال: لا يكفي أن آتي ببعض العادات والتقاليد والمفردات كي أتحدث عن دمشق. إن نزار قباني لم يكتسب أهميته في التعبير عن المدينة من أنه تغزل بياسمين دمشق وأزقتها وحواريها وبيوتها في بعض أشعاره... بل في أنه حمل في داخله مفردات دمشق... وحتي في شعره الذي تغزل فيه بالمرأة أو تحدث عن قضيتها، كان يحمل ويستخدم مفردات دمشق وروحها ولذلك أنا أعتبر أن نزار قباني كان يمثل روح المدينة وثقافتها .
وفيما يتعلق بالمشاريع السينمائية التي أنتجت مؤخراً يقول المالح: أعتقد أن العملين السينمائيين: (حسيبة) و(دمشق يا بسمة الحزن) قد ينطويان علي بحث داخلي أعمق في الزمان والمكان والإشكالية الاجتماعية والثقافية التي تمثل روح المدينة... كما أري أن السينما قادرة علي الغوص أكثر في عوالم المدن والأمكنة وقراءة إشكالياتها الثقافية والتاريخية من المساحة الممنوحة لذلك في العمل التلفزيوني عموماً .
وينتهي المالح إلي القول أخيراً... وبنوع من التشاؤم بنوعية المشاريع التلفزيونية التي ستقدم: أنا باعتقادي أن دمشق قد ظلمت في هذه الأعمال، وقد يمتد الظلم في المشاريع القادمة نحو تقديم أشكال مزيفة ومركبة وغير واقعية عن تاريخ المدينة وتراثها... وبالمحصلة يجب أن تمتلك ثقافة دمشق حتي تعبر عنها، وليس أن تتحدث مفرداتها فقط .


الفنان رفيق السبيعي: ألوم الكتاب والمخرجين!


الفنان رفيق السبيعي الممثل المخضرم الذي يعتبر أحد أعمدة التراث الدمشقي في الدراما السورية، سواء من خلال شخصية (أبو صياح) الشعبية التي قدمها في السينما والمسرح والتلفزيون، أو من خلال مشاركته في العديد من الأعمال التي تناولت بيئة دمشق (لك يا شام ـ دمشق يا بسمة الحزن ـ أيام شامية ـ ليالي الصالحية) يكاد يتفق في رؤيته مع المخرج نبيل المالح، إنما بواقعية أكبر... أي بتفهم لدوافع الإنتاج التلفزيوني التجارية وخصوصاً في القطاع الخاص إذ يقول:
باعتبار أننا أصبحنا نعتمد في الإنتاج التلفزيوني السوري علي القطاع الخاص، بعد تراجع وتضاؤل دور القطاع العام ممثلا بالتلفزيون السوري... فالقطاع الخاص دوافعه كما يعرف الجميع تجارية، وهو محكوم بمعايير الربح والخسارة وأولا وأخيرا... وقد لاحظ أصحاب الشركات أن مسلسلات البيئة الدمشقية في الفترة الأخيرة هي التي تلاقي رواجاً واهتماماً، فأخذ يسعي نحو استثمار هذا الرواج تجارياً. أما عن سبب هذا الرواج أصلاً، فأنا أري أن هذه الأعمال ترضي غرور المشاهد الدمشقي في تصوير بيئته المحلية أولاً، وهي ترضي الطبقات الشعبية في تقديم اللون الدرامي الذي يلامس وجدانها، وهي ترضي بالتالي المشاهد العربي الذي يحب قيم الماضي التي تصورها تلك الأعمال... فنحن دائماً نحب العيش في الماضي ولا نفكر في المستقبل وهذا سبب تأخرنا .
ويتابع الفنان رفيق السبيعي التعبير عن رؤيته الواقعية التي تسعي لتحليل مكامن الخلل في ظاهرة استثمار البيئة الدمشقية درامياً فيقول: أنا لا ألوم شركات الإنتاج علي سعيها نحو الاستثمار التجاري من وراء إنتاج هذه الأعمال، فهذا منطق عملها أساساً، وإنما ألوم الكتاب والمخرجين الذين لا يستغلون هذه الأعمال التي أحبها الناس لتقديم فكر ينفع الناس، ويخدم الواقع العربي والمستقبل العربي ولا يدور في فلك اجترار الماضي .


المخرج علاء الدين كوكش: نعم أعمالنا ستشوش علي بعضها!


من جهته يستغرب المخرج المخضرم علاء الدين كوكش الذي يقوم حالياً بإخراج أحد تلك المسلسلات (أيام ساروجة) يستغرب الحديث عن ظاهرة الاستثمار التجاري لهذه الأعمال، وكأنها حكر علي الدراما السورية فقط، ويقول في هذا السياق:
هذه ظاهرة نراها في السينما العالمية والعربية أيضاً... عندما ينجح عمل آكشن أو كوميدي مثلا ويحقق إيرادات غير مسبوقة، تجد العديد من الشركات تتجه لتقديم هذا النوع.... لكن في النهاية العمل الجيد يفرض نفسه إن كان عملا بيئيا أو معاصراً أو تاريخياً أو سوي ذلك .
ويري كوكش أن نجاح هذه الأعمال في الأساس قد يكون تعبيراً عن لون درامي محبب كان مفتقداً، وقد عبر الناس عن حبهم لهذا اللون ما دفع الجهات الإنتاجية والكتاب لإعادة النظر، والاهتمام به أكثر... وأنا لست ضد أن نقدم هذا النوع من الأعمال البيئية الشعبية، إن كانت تقدم بصدق، وتعبر عن البيئة بإخلاص... فالناس لن تفرح أن تري لباساً شعبياً أو ديكورات، بل تريد أن تري نفسها وأحلامها وطموحات حياتها حتي ولو كان ذلك في مرآة الماضي والخيال الشعبي لهذا الماضي .
وبسبب إنجازه لأحد تلك الأعمال كما أسلفنا، يبدو علاء الدين كوكش معنياً بما يمكن أن تحدثه من صراع سواء علي مستوي الاستئثار بالممثلين وتكرار ظهورهم في مسلسلات ذات بيئة واحدة، أو في مسألة تشويش مضامين هذه الأعمال علي بعضها بعضاً، والذي يمكن أن يحدث بسبب تزامن عرضها في رمضان المقبل كما هو متوقع. وعن هذه النقطة الأخيرة يقول علاء الدين كوكش: بالطبع يمكن أن تشوش هذه المسلسلات علي بعضها بعضاً، وخصوصاً في بداية عرض الحلقات الأولي، لكن في هذه النقطة، فالمشكلة لا تقتصر علي أعمال البيئة الشامية وحدها ـ بل تشمل جميع المسلسلات التي تحشر وتذاع في شهر واحد هو شهر رمضان... حيث بات المشاهد يضيع في هذه الزحمة والتخمة من المسلسلات المكتظة علي شاشات القنوات... لكن أعتقد أن المشاهد ذكي، والفرز سيحدث في النتيجة، والعمل الجيد سيفرض نفسه في النهاية .
وعن مشكلة تكرار الممثلين يقول علاء الدين كوكش: لقد فكرت بموضوع تكرار ظهور الممثلين في هذه الأعمال، وأنا شخصياً أتمني ألا يظهر أبطال عملي في أعمال مشابهة... لكن أنا أتصرف بشكل واقعي، فأنا أعرف أن هذه الأعمال تشكل موسم عمل بالنسبة للممثلين، وهو موسم ذروة يختصر دورة عام كامل... وبالتالي لا أستطيع أن أمنع الممثل الذي يعمل معي من العمل في مسلسلات أخري، لأنني أساساً غير قادر علي إعطائه أجراً كبيراً يكفيه من العمل في مسلسلات أخري... رغم سخاء الشركة المنتجة في توفير شروط جيدة للعمل عموماً .


المخرج بسام الملا:
المقارنة قد تكون في صالح الأفضل!


هذه النظرة الواقعية في التعامل مع ظاهرة تكرار الممثلين، تبدو بعيدة عن تفكير مخرج (باب الحارة) بسام الملا، الذي وضع شرطا علي الممثلين العاملين في الجزء الثالث هذا العام، يمنعهم بموجبه من المشاركة في أي مسلسل بيئي دمشقي، تحت طائلة الاستغناء عن حضورهم واستبدالهم بممثلين آخرين.
هذا الشرط الصعب، وضع بسام الملا في دائرة الإحراج أحياناً، ووضع بعض الممثلين المرغوبين في مثل هذه الأعمال أمام خيار أصعب... من هنا سألنا المخرج بسام الملا، إن كان قادراً علي إلزام الممثلين بتنفيذ هذا الشرط فأجاب قائلا:
نعم أنا مصر علي تنفيذه... رغم ما سيخلقه لي من إرباكات فنية وإنتاجية... لكن أعتقد أن هذه الإرباكات ستكون أقل ضرراً علي عملي من أن يري المشاهدون أبطالي وهم يشاركون في أربعة أعمال تدور في أجواء البيئة نفسها، وبشخصيات متناقضة حسب الدور الموكل إليهم في كل عمل علي حدة! .
ويري بسام الملا أن هذه الأعمال ستشوش بعرضها المتزامن في رمضان المقبل علي بعضها بعضاً، بل يذهب إلي القول: ربما تضعف العمل الجيد، بمعني أنها قد تشاغب علي القيمة الأخلاقية والبيئية الأساسية التي نعمل عليها، وستجعل المادة مستهلكة ومتوفرة بشكل أو بآخر لكنه رغم ذلك يحتفظ بنوع من التفاؤل من أن العمل الجيد سيفرض نفسه، والمقارنة قد تكون في صالح العمل الأكثر إتقانا لا ضده ويضرب مثالا علي ذلك ما حدث العام الماضي بين الجزء الثاني من (باب الحارة) وبين مسلسل البيئة الشامية الآخر الذي عرض بالتزامن معه (جرن الشاويش) دون أن يعني أنه يضمن النجاح مسبقاً هذا العام كما يقول محذرا من سرعة الاستنتاج!
وعن سر بروز ظاهرة الأعمال البيئية هذا العام، يقول بسام الملا أخيراً: السبب في تحولها إلي موجة رائجة هو النجاح الكبير الذي حصدته هذه الأعمال مادياً ومعنوياً، ومحاولة استثمار هذا النجاح والمشاركة في حصاد نتائجه المادية والمعنوية معاً... رغم تفاوت الإيمان بهذه البيئة وقيمها لدي صناع هذه الأعمال... وهو تفاوت سيقدره المشاهد بنفسه حين يتابع كل عمل علي حدة في رمضان المقبل .
أخيراً:
ويبقي أخيراً أن نردد مع فيروز في أغنيتها الشهيرة:
شآم أهلوك أحبابي وموعدنا أواخر الصيف آنَ الكرم ُيعتصر.
فشهر رمضان سيطل هذا العام أواخر الصيف... وعشاق الشام وأهلوها سيكونون علي موعد مع تلك الأعمال في موسم الذروة التلفزيوني: آنَ الكرم يعتصر!

محمد منصور /القدس العربي