هوامش المدن ، أم مدن الهوامش
دمشق : نضال قوشحة
قاع المدينة عنوان مثير لمسلسل سوري هام تناول موضوعا حيويا معاصرا يشكل نزفا في حياة وحضارة أي مدينة عصرية . كان المعنى قبلها عنوانا لمجموعة قصصية ألفها عن خصوصية مصرية الأديب الراحل يوسف أدريس .
كان للمسلسل هاجس هو البحث عن تفاصيل الحياة الشعبية لمجموعة من الناس الذين يعيشون في حي شعبي متاخم لحي حديث من أحياء المدينة . بما تحمله حياتهم من تقاطعات مصلحية متنافرة وأحيانا متصارعة .
قاع المدينة نص غاص في المحلية الشعبية لمنطقة في جوار دمشق مما اصطلح على تسميته بالعشوائيات . لم يتجه العمل لمحاور درامية غرائزية استقطابية تثير الجمهور . كزنا المحارم والمخدرات والسفاح ، بل غزل مجموعة محاوره الدرامية على تيمة تكاد تكون واحدة ، هي صراع المال مع ما يفرزه ذلك من تشوهات إنسانية أخلاقية خطرة .
فرش النص الذي كتبه محمد العاص عددا من المحاور الدرامية ، تنوعت أحوال شخوصها فكان منها الثري الذي يحمل مركبات نقص في مكنوناته نتيجة أحداث سابقة في تاريخه بحيث صار عدوا لدودا للمرأة ويعيش بشخصيته المشوهة هادفا للإنتقام من أي أمرأة يمكن أن تظهر في حياته ، ولم يكتف هذا الثري \ أبو ماهر ، أيمن زيدان \ بهذا الحقد الشخصي على المرأة بل عمد لتكريسه حقدا متجذرا في شخصية ولده الذي جعله يحقد على كل النساء وصولا إلى أمه .
في جانب آخر في النص تبرز عدة محاور، عن ناس شعبيين فقراء ينهشهم الفقر فيدخلون رحى الحياة الصعبة . فسعى النص في لجعل خارطة الأحداث في أوسع تجلياتها إلى فأوجد محوراعن أجواء حياة المبدعين من خلال شخصية علاء \غسان مسعود\ الذي تقاطع مسارحياته مع مسارحياة صديق مقرب له الذي خانه مع زوجته .
باختصار حفل النص بالكثير من المحاورالدرامية التي شكلت بانوراما حياتية حقيقية نقلت نبض الحياة اليومية بأدق تفاصيلها إلى الشاشة وبالتالي إلى وعي المتلقي .
يحسب للنص أنه شخص مسألة الإنحراف الأخلاقي التي من الممكن أن تؤول إليها حياة صبية ما في ظل وجود شرط اقتصادي واجتماعي مريرين ، وتفاقم الحالة لتصل إلى حالة من القهر . وبين الظروف المهيئة لذلك السقوط الأخلاقي ، فشخصية رولا \ديمة قندلفت\ الفتاة المتمردة تغدو فريسة للسلوك السيء نتيجة أخطاء والدها في تربيتها وتمنعه عن تقديم رعايته الأبوية الصالحة عنها واضطهاده لكامل أفراد أسرتها وتحديدا والدتها.
كذلك يحسب للنص تقديمه شخصيات مركبة بعيدة عن النمطية ، فشخصية جهاد \باسم ياخور\ الرجل اللص الذي لايجد حرجا في أي لحظة من تقديم العون لإنسان محتاج تبدو حياتية وحاضرة .
على أن النص قد دخل نفقا سارت عليه الدراما العربية سنوات طوال وهو مايسمى بمبدأ النهايات المسيرة أو المغلقة ، بمعنى إيصاله مسارات شخصيات المسلسل إلى نتائج تظهر فيها كما لو أنها قد تلقت عقابها الدنيوي بحيث وصل لكل ذي حق حقه وعوقب كل من أساء .
كان حريا بالنص أن يترك النهايات مفتوحة بحيث لايعود المدرس العاشق لدار الزوجية تائبا منهزما ، ولا ينكشف الثري المريض أمام ابنه ليتكشف الأبن بعد سنوات أن أباه يكذب وأن أمه بريئة . وكذلك الرجل المقعد الذي باع ابنة زوجته ليصير في النهاية وحيدا غارقا في ماء المجارير القذرة ، الأمر نفسه ينسحب على شخصيات أخرى مثل هيام الزوجة الخائنة التي تنهار وتعترف في الحلقات النهائية ويعرف الزوج المخدوع بالحقيقة . أيضا حالة طارق المشابهة الذي تزوج حبيبته رجاء في النهاية وتحقق لهما قدر من السعادة بعد الظلم الذي أحاط بهما طويلا، أما الحدث الأهم فكان في السقوط الأخلاقي المريع لأبي ربيع الأب المتسلط المهمل الذي يتلقى سيلا من التقريع الأخلاقي من ابنته التي أكتشفت زواجه من مالها ولم يستطع أن ينبس بكلمة واحدة . فاضطر بالتالي أن يطلق الفتاة الشابة التي تزوجها في صفقة مالية ، بحيث نالت الزوجة الحسناء عقابها بطلاق ثان وهي ما تزال شابة .
ربما كان من الأفضل أن يترك النص بنهايات مفتوحة وترك مصائر الشخصيات لخيال المتلقي بحيث نبتعد عن اللغة الوعظية المباشرة .
في التمثيل بدت نجاحات البعض أوضح من بعض آخر . فالبعض قدم جهدا مضاعفا وآخرون قدموا جهدا عاديا .
أيمن زيدان وهو النجم الهام في سماء الدراما السورية لم يستطع تقديم دور حاسم في العمل كون الجانب النفسي الإحادي الذي رسم لشخصيته جعله حبيس رتابة مستقرة وإيقاع واحد طغى على معظم حالات ظهوره فكان أداؤه مقولبا ومكررا فإما ملقيا للمواعظ أو متحديا السيدات اللواتي يتعرف عليهن ويكن ضحاياه ، كذلك كان لأدوار ممثلين آخرين مكان غير حاسم فلم تسمح مساحات أدوارهم بظهور لافت ، نذكر منهم خالد تاجا محمد حداقي أحمد الأحمد دينا هارون عصام عبه جي لينا حوارنة أمانة والي بسام لطفي وحسن عويتي .على النقيض سنجد أن بعض الممثلين قدموا جهدا أكبر في المسلسل و برزوا بشكل أقوى . فأماني الحكيم قدمت أداءً لافتا فيه الكثير من الإتزان والهدوء ، الأمر الذي نجده عند وضاح حلوم وديمة قندلفت التي جسدت بنجاح ملامح التمرد في شخصية رولا ، كذلك رفعت صفاء رقماني من رصيدها الفني من خلال أدائها الإنسيابي في دور الحسناء الجميلة ، هذا الكلام ينسحب على أداء كندة حنا وجيني إسبر التي تتصاعد خبرتها عمل إثر آخر وقد أدت بنجاح شخصية شيرين السكرتيرة المخدوعة والمحتاجة ، بدورها كان لظهور تاج حيدر مكان بارز في نجاح العمل ، وقد جسدت شخصية رجاء بشكل شفاف ومتمكن وتناغمت في مشاهدها مع باسم ياخور بشكل ملفت .
عبد المنعم عمايري قدم جهدا طيبا وكان حار الأداء وممسكا بروح شخصيته بتقلباتها وجموحها ثم انكساراتها ، أما الأداء القوي والمتميز فكان لباسم ياخور الذي لعب بشكل متقن دور جهاد ، في هذا الأداء يثبت ياخور أنه ممثل حاذق ، فهو أخرج نفسه من شرنقة الأعمال الكوميدية التي ظهر بها سابقا وكان في العمل بشكل آخر متماسك الأداء ، وممتلكا لحضور طاغ في مساحة العمل .
الاسمان الأبرزان على صعيد التمثيل كانا على التوالي غسان مسعود ومنى واصف . فمسعود لعب دور الكاتب علاء الذي يكتب المسلسلات التلفزيونية فتحاصره مساعدة له وتقنعه بحبها ومن ثم الزواج بها ، ليكتشف لاحقا أنه وقع في مصيدتها بالتعاون بينها وبين صديق مقرب منه طمعا في ماله اللذان سرقاه .
غسان مسعود لعب دوره بحرفية ووضعنا في كينونة أجواء الكاتب والروائي ، فكان هادئا متزنا يسيطر على تقلبات شخصيته في أعنف حالاتها النفسية وهو جسد في دوره وعيا كبيرا لفهم خصوصية شخصية علاء وتحريك ما يملك من أدوات مهنية في خدمة الفكرة ، براعة مسعود ظهرت بوضوح بعد كشف علاء لخيانة زوجته وصديقه فكان صاحب أداء عالي المستوى ودالا ببراعة على نضج فكري هائل يتمتع به شخص الكاتب علاء وبالتالي غسان مسعود الممثل الذي تفهم مقولات شخصيته بدقة ورسمها بشفافية عالية مشخصة بروح ودم حقيقيين . غسان مسعود وهو صاحب الخبرة الكبيرة في التمثيل يثبت علو قامته في هذا المجال ويكرس من نفسه رقما صعبا في الحياة الفنية في سورية .
اسم آخر تجلى في العمل هو السيدة منى واصف التي أدت دورا لاتلعبه بهذه الحرفية سوى ممثلات كبيرات . عفوية كبيرة ، ناضجة ، حية ، ورصد لتفاصيل شخصية أم ربيع السيدة الشعبية البسيطة ، وامتلاك كامل لأدوات التعبير خاصة حركات الوجه والعينين ، واستخدام موفق لأداة الصوت ، بحيث يعلو في المناطق التي يجب أن يعلو فيها وينخفض في مناطق يجب أن يكون منخفضا فيها .
منى واصف اسم كبير كسبه العمل وحقق من خلاله تميزا هاما وشكل قيمة مضافة لجودته .
المشهد الأخير في المسلسل كان حرفيا بامتياز ، ساعة أن يطوف البيت بماء المجارير فتستيقظ الأم وأختها وقد شعرتا بالماء وامتلئتا رعبا على الرضيعة التي كانت نائمة بالقرب منهما وخشيتا أنها غرقت ، فتفزعان ، ثم دخول الأم \ منى واصف \ لتطمئن على الرضيعة وتكتشف أنها لم تمت ، عينا وصوت أماني الحكيم في هذا المشهد ومن ثم تعالي صوت ديمة قندلفت في حالتها الهيستيرية موقفان لاينسيان ويشكلان أداء ملفتا لكلتا الممثلتين .
إخراجيا كان للفنان سمير حسين رأيه وحضوره الإبداعي الذي زاد من أهمية الفكرة وحسن تنفيذها . لم يكن مسموحا لسمير حسين أن يفشل بالعمل ، فنص قوي وممثلون أقوياء . ويبدو أن سمير حسين كان على قدرالتحدي فوصل بالنص إلى بر الأمان بخطى ثابتة وموزونة .
قاع المدينة نص يحمل التباسا في معنى الفكرة ، فهل سيذهب لقاع المدينة \ العشوائيات \ أم سيذهب لقاع شخوص العمل . يبدو أن حسين قد تصدى للمسألة في بعديها ، المديني والشخصي ، وفي هذا تحقيق لأول عامل في نجاح العمل كونه قد وصف حالة النص وفكرته الأعلى وقد لعب بأدواته الإبداعية ليكرس هذين المفهومين .
لم يتعامل سمير حسين مع النص باسلوب سردي إعتيادي ، فوضع حساسية الكاميرا وجغرافيتها والإضاءة في خدمة الأفكار التي يراد الوصول إليها . فأحداث المسلسل تدورفي منطقة تشكل حالة تماس مع المدينة وتحديدا في جزء حديث منها ومتطور ، أراد المخرج أن يضعنا دائما في حالة التناقض تلك ، فكان يكثر من اللقطات الإستهلالية للمشاهد التي تصور هذه المناطق العشوائية وهي بالقرب من المدينة الحديثة وهو رمز لمفهوم قاع المدينة المديني . كذلك عمد المخرج لإستخدام حجم الصورة بطريقة دراماتيكية ، فكان الكادر يقترب من شخص الممثل وغالبا وجهه كلما كان موضوع الحوار مشكلا لحدث هام أو نقلة درامية حارة .
المونتاج كان إسلوبا سرديا في بعض مفاصل العمل ، خاصة في المشاهد العنيفة التي جمعت شخصيتي رولا وماهر ومشاهد المطاردة بالسيارة .
على أن الأداء الأكثر تميزا للمخرج كان في اختياره لمكان التصوير أولا ومن ثم في دراسة الحركية المشهدية واستغلال ما يمكن من تفاصيل المكان . فالمشهد الأخير حيث مياه المجارير التي اجتاحت المكان بشكل فوضوي و خربت البيوت ، معادل بصري على حجم الإنهيارات الأخلاقية التي حدثت والقاع القذر التي وصلت إليه بعض الشخوص ثم انعكاس صور الوجوه على هذا الماء وبالتالي سقوط القطع النقدية الورقية عليه ، كل هذا شكل منظومة بصرية مرمزة بالغة الحساسية والدقة ومعادلا بصريا ناجحا لفكرة حوارية ، ودليلا على طاقة ابداعية إخراجية هامة .
في موضع آخر يستخدم المخرج تقنية الصورة المغبشة عندما تنظر الزوجة الحسناء في المرآة لتشاهد وجهها التي تعرفه جميلا لكنها تراه هذه المرة مليئا بالقباحة . فكان مشهدا مدروسا حيث نقل لنا جوانية هذه الحسناء التي كانت طرف صفقة مالية بين أهلها وعريسها . ونقل إلينا بصريا أنها تعيش أزمة نفسية مع ذاتها ، بحيث أنها لم تستطع أن ترى نفسها جميلة كما كانت .
إيقاع العمل كاملا كان جيدا ومتماسكا فالأحداث ظلت موجودة ومتغيرة حتى المشاهد الأخيرة في المسلسل . على أن الإخراج قد سار في نفس الحالة التي أوجدها النص من حيث وضعنا أمام النهايات المغلقة التي كان حريا بالقائمين على العمل برأينا تركها مفتوحة لتحفيز عقل المتلقي على العمل واستخلاص العبر بنفسه .
قاع المدينة عمل جدي هام حفل بالجهد النبيل رغب في الحديث عن تفاصيل هامشية نعيشها كحضريين بشكل باهت مع أنها تشكل حالة تماس عنيف معنا وكأننا نعيش في سقف مدينة ونسهو عن القاع .