الصورة والترجمة والتأويل في وسائط الإتصال /الجزء الاول

المغرب/ أ .ادريس القري

توطئة.
تبئير تركيبي معجمي:

ما الترجمة؟
سؤال تتضاعف أهميته وتتعدد مستويات طرحه عندما ننتقل من ميدان اللغة الأبجدية على اختلاف ألسنها، إلى الترجمة من وإلى اللغتين: الأبجدية العقلانية، لغة غتبرغ Goteberg من جهة، واللغة السمعية البصرية سينمائية كانت أو تلفزيونية، في ارتباطهما باللغتين البصرية مفردة والسمعية منفردة من جهة ثانية. وإذا كان هذا الموضوع من المواضيع العلمية المعاصرة التي استقطبت اهتمامات الباحثين، وخاصة في علم النفس وعلم الاجتماع و اللسانيات والسيميائيات وعلوم التربية إلخ، فإن ذلك راجع بالأساس إلى تعاظم التأثير الذي لهذه اللغة الجديدة على السير العام للأنظمة السياسية والاقتصادية والثقافية للمجتمعات المعاصرة بصفة عامة، وعلى التواصل بين الأفراد والجماعات والمجتمعات في العالم المعاصر.
الترجمة "تفسير الكلام بلسان آخر" [ "المنجد في اللغة"، دار المشرق، الطبعة الثالثة والثلاثون، بيروت لبنان 1986، ص، 60. ]. و هي كذلك: "نقل الكلام من لسان إلى آخر مع استهداف المعادلة بين المقول الأصلي والمقول المحصل عليه." [Dictionnaire HACHETTE 1994. Edition HACHETTE. Paris. ]. أما القاموس / القرص المضغوط الفرنسي [H.F.H. Hachette multimédia H. livre 1998] فيعرف الترجمة باعتبارها: "التعبير بشكل غير مباشر عن فكرة أو مشاعر بواسطة الفن بصفة خاصة".
وقبل الانتقال لفحص مفهوم التأويل، نتوقف عند دلالة الترجمة في السبرنطيقا CYBERNETIQUE حيث تعني: "نقل ضخامة وفخامة وصفاء إشارة فيزيائية ـ صوتية أو بصرية أو سمعية بصرية ـ إلى مستوى ضخامة وتفخيم وصفاء فيزيائي أهم عند خروجها من جهاز قراءة القرص أو الشريط". هكذا يكون المترجم le traducteur ، هو العنصر المترجم للإشارات المستَقبَلة إلى تفخيم وصفاء ملائم أكثر للجودة المطلوبة عند خروجها من جهاز البث والعرض. [ D.F.H. 1994. P, 1892]
هكذا وبناء على ما سبق نخلص إلى التعريف الإجرائي التالي للترجمة: الترجمة في نظرنا نقل للمعاني من لغة إلى لغة أخرى، ومن ثقافة إلى ثقافة أخرى. يتعلق الأمر "بقراءة" نص مكتوب في سياق ثقافي واجتماعي وتاريخي محدد، قصد "إعادة كتابته" في سياق ثقافي واجتماعي وتاريخي آخر مغاير ومختلف. اللغتان هنا وسياقهما منقولان عبر ذاتين مختلفتين هما: ذات الكاتب الأصلي للنص، وذات المترجم لهذا النص. وتتوقف ملائمة الترجمة هنا على التأهيل اللغوي و المعرفي للمترجم، كما أن هذه الترجمة تتأثر بالمهارة وبالحذق والتخصص المعرفي للمترجم. هكذا تكون هذه الترجمة: إما تشويها للنص الأصلي ولأفكاره ومعانيه إذا نقصت شروط التأهيل السابق ذكرها، أو أنها تكون إبداعا إذا توفر الحد الأدنى من تلك الشروط. و تشكل هذه الشروط في نهاية المطاف حساسية ذاتية وتجربة مستوعبة ومتذوقة للنص المترجَم، وقدرة على قراءته والتعبير عن معانيه بيسر وبتدفق.
تنطبق هذه الحالة في رأينا على الترجمة من وإلى لغات من نفس الصنف. ونحن نقصد في هذا السياق اللغات الأبجدية مهما اختلفت مرجعياتها الثقافية والحضارية وبنياتها التركيبية وجذورها التاريخية. فهل ينطبق نفس الأمر على الترجمة بين لغتين مختلفتي الطبيعة؟
ما التأويل؟ التأويل هو تفسير الغامض "تفسير الأحلام" مثلا. ومن الناحية القانونية هو: "تفسير حكم القاضي غير القابل للاستئناف". وهو أيضا من منظور التحليل النفسي: "تفسير وإضاءة المحلل النفسي للدلالات الكامنة وراء كلمات وسلوكيات الشخصية موضوع التحليل". [ ibid.]. وقد عرفه الجرجاني بأنه في الشرع "صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله إذا كان المحتمل الذي يراه موافقا للكتاب والسنة مثل قوله تعالى يخرج الحي من الميت، وإن أراد به إخراج الطير من البيضة كان تفسيرا، وإن أراد به إخراج المؤمن من الكافر أو العالم من الجاهل كان تأويلا." ( التعريفات ) أما "التأويل عند ليبنتز فمرادف للاستقراء، وهو البحث عن علل الأشياء للارتقاء منها إلى العلة الأولى، وهي الله. و ما يسميه الفيلسوف استقراء يسميه اللاهوتي تأويلا، والغرض من الطريقتين معرفة بواطن الأشياء"[ أورده الدكتور جميل صليبا في "المعجم الفلسفي" بالألفاظ العربية والفرنسية والإنجليزية واللاتينية، الجزء الأول، دار الكتاب اللبناني، بدون تاريخ، ص، 234. ] وقال ابن رشد الفيلسوف الذي مارس التأويل باعتباره فن وعلم لتجاوز إعادة إنتاج آراء ومواقف الفقهاء وعقليتهم المحافظة بأن التأويل هو: "إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير أن يخل في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه، أو لاحقه، أو مقارنه، أو غير ذلك من الأشياء التي عودت في تعريف أصناف الكلام المجازي." [ أبو الوليد بن رشد "فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال"، القاهرة 1910، ص، 8. ]. أما عن الفرق بين التأويل والتفسير وهو النقطة الأساسية في ما سنركز عليه من ضرورة العلاقة بين التأويل من جهة والترجمة من وإلى السمعي البصري من جهة ثانية، فيقول عنه الدكتور جميل صليبا: "والفرق بين التأويل والتفسير أن أكثر استعمال التفسير في الألفاظ ومفرداتها، وأكثر استعمال التأويل في المعاني للتوفيق بين ظاهر النص وباطنه، أو لصرف النظر عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله..." [ مرجع سبق ذكره، ص، 314 ].
نخلص إذن إلى الآتي: التأويل مرحلة تالية للتفسير الذي ينبغي له أن يظل واقفا عند حدود القواعد الصارمة للمعاني اللغوية اصطلاحا في أقصى الحالات. يتعلق الأمر بسلطة اللغة التي تتجلى في قواعدها وقوانين تنظيم تركيب فونيماتها وعلاماتها ورموزها ودلالاتها كما تتحكم فيها البنية الاجتماعية والتاريخية للمجتمع، بمحرماته وبمكبوتاته ومقدساته في ارتباط أساسي بنظامه الثقافي والسياسي العام. في هذا السياق يكون لازما الوقوف عند الحدود التي تمنع الإخلال بالمعاني اللغوية المباشرة للكلمات، أو معانيها المجازية المسموح بتداولها لعدم تعارضها والخطوط الحمراء الممنوع تجاوزها في كل ثقافة. يكون التأويل والحالة هذه تحررا من قواعد وشروط التفسير والتزاما بها في نفس الوقت ولكن، على أساس أنه يتيح حرية أوسع للذات الفردية. تُمارس هذه الحرية تحت شروط عدم الإخلال بقواعد اللغة في استعمالاتها المجازية والكنائية والاستعارية حسب الفيلسوف أبو الوليد ابن رشد. فخلافا للتفسير إذن يفْتِرضُ التأويل من مُمارِسِهِ امتلاك ذاتية فكرية وفنية:
الذاتية الفكرية: وتدل على امتلاك الرأي المستقل والمتميز المالك لقوة الإقناع بإسناداته وتبريراته.
الذاتية الفنية: وتمثل القدرة على صياغة هذا الرأي المتميز بانسجام وتناغم يمنحانه التماسك والجمالية في بنيته المعمارية.
لكن عندما نكون أمام لغتين مختلفتين نظاما وتركيبا، أدوات وتقنيات وأساليب تعبير مثل اللغة الأبجدية مقابل اللغة السمعية البصرية، فهل يمكن الحديث عن ترجمة من وإلى بعضهما؟ انطلاقا من التحديدات المعجمية والفلسفية السابقة هل يمكن الحديث عن تفسير وتأويل للدلالات قصد ترجمتها وما حدود الملائمة في حالة الإمكان؟

بين ترجمة الصورة وتأويلها:

إن الانتقال من الكتابة الأبجدية إلى الكتابة السمعية البصرية انتقال من مجال العقل وعملياته العليا كالفهم والتجريد والتحليل والتعميم... إلى مجال الجسد والذوق والانفعال والإحساس والتقدير. يقابل هذا الأمر عند الفلاسفة الانتقال من مجال الأحكام التقريرية الموضوعية، إلى مجال الأحكام التقديرية المعيارية الذاتية. إن هذا الانتقال الذي يتطلب ضبطا لأدوات الحكم و التَّعْيِير هو، من جهة أخرى، انتقال من مستوى الحكم المبنى على ماهو كائن في الواقع وقائم فيه، "الأشياء كما هي" حيث يتم تقرير ما يُرى وما يُسمع وما يختبر وما يقاس ويدرك عقليا ومنطقيا، للتمكن من نقله إلى بنيات ذهنية تجريدية مكممة ومحكومة بمعايير القابلية للانطباق على الواقع، أو بمعايير الانسجام والتلاحم الجمالي في البناء النظري، إلى مستوى المعياريات Les Normativités حيث الحكم مبني على وقع العمل على الذات ومدى تواصله معها وغوايته لأحاسيسها ولتربيتها الجمالية والأخلاقية والفكرية مجتمعة. لكن لا بد من التمييز في هذا المجال بين نمطين من الاهتزاز للأعمال الفنية والتجاوب معها