الصورة والترجمة والتأويل في وسائط الإتصال: ضد المعرفة العامية./الجزء الثاني ..

القري إدريس
تتمة

لا بد من التمييز في هذا المجال بين نمطين من الاهتزاز للأعمال الفنية والتجاوب معها:

الاهتزاز الانفعالي الاسقاطي الساذج:
وهو ذلك النوع من التجاوب مع الأعمال الفنية انطلاقا من خزان اللاشعور وطاقاته المكبوتة والكابتة على قاعدة الإسقاط غير الواعي [ "la projection" كما حدده مؤسس التحليل النفسي "سيجموند فرويد" أساسا، باعتباره آلية دفاعية تروم البحث عن نماذج ذرائعية في الواقع المادي أو التخييلي كما تقدمه الفنون عموما على اختلاف أنواعها، للتنفيس عن مكبوتات أو احْتقانات احباطيّة مُعاشة اشتدت وطئتها ]. في هذا النوع من الاهتزاز العامّي إذن ـ والعاميّة هنا لا تتوقف على معايير الثروة أو الشهادات أو النسب...بقدر ما تتوقف على درجة الوعي والتجربة الجمالية للذات ـ يحتل الإسقاط موقعا قويا لأن العمل المعروض يكون ذا بنية نموذجية مبسّطة ومختزلة دراميا. كما أن هذا العمل يكون مُتمحورا على نماذج أصلية اعتيادية ARCHETYPES [ النماذج الأصلية هي "المثل السامية والمطلقة للأشياء" كما تحدث عنها الفيلسوف اليوناني أفلاطون في نظرية المثل. وهي "أفكار كل الأشياء كما كانت عليه في العقل الإلهي قبل الخلق حسب الفيلسوف المسيحي بيركلي. أما في علم النفس فالنموذج الأصلي "Arketip" حسب عالم النفس الألماني "كارل غوستاف يونغ"، وهو من يهمنا هنا أكثر، فهو شحنة انفعالية و نفسية عميقة، تتعلق بتجارب إنسانية موغلة في القدم ومشتركة في الغالب بين كل الأفراد وبين الثقافات. [ أنظر تحديدنا السابق له ولدوره في الأعمال السمعية البصرية وشعبيتها، مرجع سابق الذكر، ص، 102 ] في محاكاة شديدة لليومي المشترك والعام. يتم تقديم هذا اليومي العام والمشترك مختزلا في ثنائيات مستهلكة وكونية مثل الطيب ضد الخبيث، والخيّر ضد الشرير، والقوي ضد الضعيف، والغني ضد الفقير...الخ. وتعوق هذه الثنائيات أي مجهود فكري ما دامت تخاطب مباشرة النماذج الأصلية المختزنة لدى كل الناس وفي كل المجتمعات والثقافات. هكذا تشكل هذه الثنائيات عائقا دون حصول الوعي لأنها تحول دون توظيف ـ عند التماهي بين المتفرج وشخصية أو وقائع من العمل الفني ـ الخبرات العقلية أو الذوقية الأولية لبناء "وعي نقدي" قابل للتطور لدى المشاهد المنفعل. مثال هذا النوع من الأعمال هو ما ترجمناه سابقا في كتاباتنا بالمسلسلات والأفلام الفقاعية "Soap-opéras" وهي درامات عاميّة وعالمية في نفس الوقت، تتربع على عرش إنتاجها عالميا هوليوود بدون منازع، حيث بلغت نسبة إنتاجها من الإنتاج العالمي سنة 1944 60%، بينما قفزت هذه النسبة في سنة 2000، بفعل عولمة الاقتصاد والسياسة والثقافة بسائر أنواع تعبيرها إلى 80% من الإنتاج العالمي، [ أورده الأستاذ عبد الهادي بوطالب في درسه الافتتاحي بجامعة مدينة سطات المنشور بجريدة "الاتحاد الاشتراكي الأسبوعي" العدد 30، نونبر 2002، ص، 7 ].

الاهتزاز التذوقي العارف:
وهو تجاوب واع مع الإبداع الفني غالبا ما يكون مسبوقا أولا بقصدية. تتمثل هذه القصدية في اختيار المنتوج المشاهد لقيمته الفنية التي سبق اختبارها بمرجعية فكرية وجمالية ما. قد تتجسد هذه المرجعية في أداء أستاذي لممثل كبير، كما قد تتجسد في القوة والشجاعة الفلسفية والتمكن الفني لمخرج "مفكر"... بحيث تكون للعمل في هذه الحالة القدرة على تحريك خبرات وذاكرة ومعرفة وتجارب إبداعية متقاطعة، اكتسبت كرصيد عبر تربية الإحساس والذوق والذهن. وتستطيع الذات التي تهتز بهذا الشكل تجنب ما يحدث حتما للذات المرتبطة بصمام أمان الإسقاط، أقصد يقظة الواقع المريرة التي ينتهي بها الاهتزاز الاسقاطي الساذج.
من جهة أخرى يمكننا القول بأن هذا الاهتزاز يترافق فيه نوع من التزاوج بين التلذذ والمتعة التي غالبا ما تنتهي بالفهم والإدراك المتعدد المستويات "لرسالة" العمل الفني. يمكن هذا الفهم من القدرة على ترجمة العمل الفني، مرة ثانية بعد أن "ترجمه" صاحبه، من اللغة السمعية البصرية السينمائية أو التلفزيونية، إلى اللغة الأبجدية ترجمة مبدعة. تستطيع هذه الترجمة إن كانت مبدعة بالفعل، أن تنقل تلك المتعة وذلك الفهم النقدي المُقدر لقيمة العمل الفني.
يتبين لنا إذن بأن الفرق الأساسي بين اللغة الأبجدية واللغة السمعية البصرية يكمن في أسبقية تحريك العقل وعملياته العليا ومهاراته التجريدية بالنسبة للأبجدي من جهة، و بأسبقية الجسد والانفعال والإحساس والوجدان بالنسبة للسمعي البصري، فكيف يمكن الحديث عن ترجمة بينهما علما بأن الأدوات والوسائل وآليات بناء التعبير والتصورات والدلالات تختلف جذريا بينهما؟ ثم ماذا لو كان العمل المراد ترجمته من السمعي البصري إلى الأبجدي منتوجا فنيا عالي القيمة أي، ذا تعبير خاص ومستحدثُ "العلامات" و "الرموز" حسب اللسانيين؟
يبدو لنا أن تعريف الفن في هذه الحالة سيجنبنا بعضا من الغموض والخلط السائدان في هذا الميدان فما الفن وما أهم تعريفاته؟
باختصار نقول بأن الفن بعد التزيين والتجميل للمعروض بمهارة هو:
أ/ "مجموعة من القواعد المستخدمة لبلوغ غاية معينة جمالا أو خيرا أو منفعة كانت. وهو بذلك متعارض: 1/ مع العلم كمعرفة خالصة مستقلة عن التطبيقات. 2/ ومع الطبيعة كقوة منتجة بالفطرة. بهذا المعنى ترتبط تعابير مثل الفنون الميكانيكية بمهن مثل فن النجارة وفن الهندسة... والفن هو أيضا: الفنون الجميلة التي يكون الهدف الرئيسي فيها هو إنتاج الجميل، والجميل تشكيليا على وجه الخصوص مثل الرسم والنحت والنقش والمعمار وفن الديكور...إلخ.
ب/ الفن هو الإستطيقا...حيث يدل على كل إنتاج للجميل من خلال أعمال إنسان واع. وينطبق هذا التعبير بصيغة الجمع خاصة على وسائل التنفيذ. أما بصيغة المفرد فينطبق على الخصائص المشتركة للأعمال الفنية. بهذا المعنى يتعارض الفن مرة أخرى مع العلم كما تتعارض الفنون مع العلوم، ولكن من منظور آخر: الفنون تنتمي للغاية الإستيطيقية، بينما العلوم تنتسب للغاية المنطقية." [ André Lalande, Vocabulaire technique et critique de la philosophie volume 1. 3iéme éd PUF 1993 p 79/80 ].
والفرق في الفنون الجميلة بين الفنون التشكيلية والفنون الإيقاعية هو "أن جوهر الأولى هو المكان والسكون، على حين أن جوهر الثانية هو الزمان والحركة"، [ المعجم الفلسفي، سبق ذكره، ص، 165. ].
وعلى العموم واعتمادا بالأساس على ما سقناه من تحديدات سابقة على هذا الجزء من الكتاب، نخلص إلى التعريف التركيبي والإجرائي التالي للفن:
هو معرفة وإتقان حِرفيّ أولا، ثم قدرة فائقة على التخييل ثانيا، ثم تمكُّنُ ُ من التعبير عن ما يدور في العقل والسريرة ثالثا، وتنتج هذه القدرات الثلاثة صيغا وأشكالا غير مألوفة مهما كان نوع وحجم الموضوع المعالج، اعتياديا أو سبق طرقه مرارا.
ينتج عن ما سبق أن الفن ليس لا نقلا حرفيا للواقع، ولا تشويها له. بل هو كما يقول الفيلسوف الألماني "ف. ج. هيغل" تجاوز للطبيعة ووعي بعدم إمكانية محاكاتها.
إن الفن الرفيع والحالة هذه، يحتاج بالضرورة ذاتا مؤهلة لاكتشافه كما يؤكد على ذلك العديد من المفكرين. في هذا السياق يقول المفكر المغربي عبد الله العروي على لسان ادريس الشخصية الرئيسية في الكتاب/السيرة الذهنية "أوراق": "...ارتقى إدريس من مستوى الاستهلاك إلى مستوى التذوق، أدرك أن أصالة الفن السينمائي تكمن في كونه ملتقى الفنون الأخرى من أدب وموسيقى ورسم وطراز معماري وغناء ومسرح. كل فن لا يعرف إلا بالممارسة..." [ عبد الله العروي، "أوراق"، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، طبعة 1989، ص، 181 ].
إن التمتع بالفن الرفيع كما إنتاجه، قدرة على الانخراط والمشاركة في معمعة ثنائية تخلقها ذاتان: ذات مبدعة وذات متذوقة، كلاهما بلغت درجة عالية من التواصلية LA COMMUNICABILITE.
هكذا إذن أعتقد أن ترجمة الأعمال السمعية البصرية تستدعي بالضرورة تجاوز التفسير إلى التأويل، وذلك بالنظر إلى كل ما أفضنا فيه القول حول الاختلاف الكبير بين خصوصيات التعبيرين وما سنعمقه أكثر في ذلك لاحقا.
إن الكتابة السمعية البصرية كتابة متعددة المستويات الدلالية. لذلك فنظرية الباطن والظاهر الموجودة عمليا في كل شيء، وموجودة بالضرورة وفوق العبث عن المعقولية في كل ما هو إنساني فني عميق التواصل مع العالم وإشكالياته الكبرى، تنطبق على الإنتاج الفني الراقي منه على وجه الخصوص أكثر مما تنطبق على غيره. ومن هنا نسوغ لنفسنا الإدعاء بأن التأويل هو الأداة العقلية الأكثر نجاعة ومردودية وملائمة في عملية "ترجمة" السمعي البصري إلى الأبجدي والعكس صحيح.
إن التأويل في نظرنا هو المفهوم الأسلم كأداة للمرور من الأبجدي إلى السمعي البصري، عوض الحديث عن الترجمة بمعناها التفسيري. نقول هذا ونحن نعلم أن الترجمة نفسها قد تستدعي أحيانا الإستعانة بالتأويل. كما يمكن القول ردا على كون السيناريو كتابة أبجدية، باعتباره أساس الفيلم السينمائي والتلفزيوني، بأن السيناريو بمعناه المحترف ليس إلا مشروع صور ومناخات، مخطوطة على الورق بلغة أبجدية صحيح، ولكنها لغة إيحائية بشكل قوي على التخيل والتخييل، تركز على الوقائع والمواقف الدرامية، وتصف أوضاعا وأحداثا وانفعالات تقع في صميم التجربة الإنسانية. يرسم هذا المخطوط –السيناريو - تقاسيم الشخصيات الأساسية والفاعلة في الحكاية ويضع لها سمات مميزة. ويكتب كل هذا في سيناريو الفيلم بأسلوب غير أدبي إن صح التعبير، أي أنه يكتب بأسلوب مُسَنًّنٍ ذا قدرة تبليغية عالية على مستوى التخييل والتصور الذهني المُشخص، وذلك بالنسبة لأصحاب تقنية "تخصيب الأفكار".
نحن إذن في هذه الحالة أمام انتقال من تقليد تعبيري إلى آخر، من عصر اليدوي العقلي إلى عصر الآلي الإلكتروني، والتعارض هنا قائم بين أسلوب تعبير إنساني فردي ويدوي من جهة، وأسلوب تعبير إنساني جسدي انفعالي مزروع فيه الإلكتروني كوسيط بمنطقه الخاص وبتقاليده الجماعية في الإنجاز. يقول "ميشال أورلانديني" وهو مدير الإبداع بوكالة إشهارية: "...على المبدعين أن يفكروا بمشاعرهم أكثر من ذكاءهم، فينبغي للإبداع السمعي البصري أن يوظف الشحنات الانفعالية فكاهية كانت أو درامية أو تعاطفية. فمن الأساسي تخزين الانفعالات اليومية واسترجاعها كاملة في اللحظة المرغوبة، فمعرفة تبليغ الاهتزازات وكيفية المشاهدة والملاحظة مهنة، بل عقيدة حتى". [ بيير بابان "لغة وثقافة وسائل الاتصال"، ترجمة ادريس القري، منشورات الفارابي، 1995، ص، 9 ].

في خصوصية التعبير السمعي البصري:
إن الاختلاف بين اللغتين الأبجدية من جهة، والسمعية البصرية من جهة ثانية أمر سيقت فيه شواهد علمية وأدبية متعددة. فقد أكدت اختبارات نفسية وفيزيولوجية أجريت على مشاهدين للتلفزة وللسينما من جهة، كما أجريت لقراء الأبجدي المكتوب من جهة ثانية، وذلك بواسطة ربطهم بجهاز قياس الإشارات الدالة على نشاط الدماغ عند تلقي اللغتين الأبجدية والسمعية البصرية، دلت على اختلاف درجة تشغيل فصي الدماغ عند استعمال أو تلقي اللغتين. فقد تبين أن الفص الأيمن المسؤول عن الانفعال والعواطف والفهم الكلي للأشياء، يشتغل أكثر مع السمعي البصري من تلفزة وسينما ... في حين أن الفص الأيسر المشرف على وظائف التحليل والتجريد وإدراك التفاصيل والربط المنطقي الاستدلالي يشتغل أكثر كما يحدث منذ قرون، مع اللغة الأبجدية. [ بيير بابان، مذكور سابقا، ص، 25... ] ولا يجب أن يُفهم من هذا الفصل بين اللغتين المقارنتين هنا، وجود انفصال بينهما على غرار الفصل بين المتحضر والمتوحش لدى الأنثروبولوجيين الكولونياليي النزعة، بل ينبغي القول بأن الأمر يتعلق بطريقتين في الفهم، تختلف أولوياتهما الترتيبية مع حدة تميز أكبر كلما تعلق الأمر بفن مسبوك بإبداعية عالية. ومن المؤكد أن هذا الاختلاف في ترتيب الأولويات بين اللغتين له انعكاسات على ما يثيره ويطوره كل منهما أكثر لدى المتلقي من قدرات ذهنية أو أنماط سلوكية من خلال التجارب الانفعالية.
يستلزم إنتاج واستهلاك السمعي البصري من جهة أخرى، امتلاك القدرة على الانغماس في مناخ "سحري" ينبغي على صانعي هذا المنتوج حيازة الحساسية الكافية لإنتاجه. ويتم إنتاج هذا "السحر" الأخًّاذ في السمعي البصري عند النجاح في خلق "خيمياء" تنسجم فيها كل مكونات الصورة والصوت، مسبوكة في مناخ يكاد يجعلك تلمس الأجساد وتشم الروائح وأنت ترى الصور على الشاشة، عندها تشكل الخطوط والألوان، والظلال والملامح، والحركات المرئية والإيقاعات الصوتية، والحوارات الدالة والأضواء المعبرة أو المانحة للخصوصية التواصلية للأشكال...ويشكل كل ذلك لمقدمة الصورة أو موضوعها هالة روحية هي عبارة عن إطار مُرصَّص، قادر على تحريك الدواخل وجعل المتفرج، حتى اليقظ منه، يسترجع الانفعالات الإنسانية العميقة والكونية في صورها الأكثر استنفارا لكيان الإنسان المعاصر. في هذا السياق أيضا تصبح الجمالية الدالة جمالية المسموع والمرئي في نفس الآن. وخلافا لما يمكن أن يفهم اختزاليا، فإن هذه الجمالية هي نتيجة لانصهار كلا العنصرين أي، الصوت والصورة في بنية لا تمايز بينهما وليست مجرد حصيلة لتجميعهما تعسفا. أفكر في الهالة الروحية التي تغزو المتفرج وهو أمام الحصيلة التأثيرية الساحرة بعمقها الفكري والوجداني لفيلم: "Eyes wide shut" لستانلي كوبريك، على سبيل المثال لا الحصر. والمثال من السينما الأمريكية لأننا نعتقد بأن اكتساحها لشاشات العالم ليس نتيجة فقط لقوة الدولارات التي تدعمها وتصنعها، بل هو نتيجة أيضا لذكائها ولإبداعية عباقرتها الكبار، خاصة عندما يصبحون رموزا لهوليوود نفسها، تتعيش على أسطورتهم بعدما ساهمت في خلقها.
إن المنتوج السمعي البصري السينمائي خاصة والتلفزيوني بدرجة ثانية ومغايرة كما سنبين ذلك في مكان آخر من هذا البحث، يفرض من خلال الانغماس فيه أولا تلقيه جسديا وحواسيا والعيش فيه وضمنه وتحت تأثيره. لذلك يقال عن عمل فكري ما ملائم بأنه مقنع بدقته ووضوحه وتماسك استدلالاته وانسجام عناصرها، بينما يقال عن عمل سمعي بصري سينمائيا كان أو تلفزيونيا، بل حتى مسرحيا ولم لا، بأنه مؤثر يمسك بتلابيب الوجدان ويسافر بالمتفرج بعيدا في عالم خاص بمناخاته وشخصياته الواقعية والذاتية في نفس الوقت. إنه منطق الجذب والانجذاب في الأدرمة la ‘dramatisation’، منطق المفاجئة والإثارة، مقابل الإقناع العقلي والإفحام المنطقي المرتب تجريدا وبرهنة.