بشار إبراهيم
عندما ركبت الفتاة الفلسطينية «تيريزا هلسا» طائرة "سابينا"، وشاركت باختطافها، عام 1972، لم يكن يساورها من أمل، ربما، إن هي نجت، وبقيت على قيد الحياة، إلا بالعودة إلى بيت الأهل في عكا!.. كل ما في الفتاة ابنة السبعة عشر عاماً حينها، كانت يؤمن أن العمل الثوري هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تفتح درب تحرير الوطن، والعودة إلى البيت المغتصب.
ها هي، تيريزا، بعد قرابة أربعين عاماً تجد أن بيتها الذي باتت تقضي فيه معظم أوقاتها، وتصرّف شؤونه، ما هو إلا غرفة مكتب، في مؤسسة الشؤون الاجتماعية، التي تتولى العناية بالجرحى، وقدامى المناضلين، الذي غدوا اليوم عاطلين عن العمل.. لا يأملون بغد، ولا ينتظرون إلا المساعدات!.. حتى لو ذرفوا الدموع بين يديها.
خيبة المحارب إذاً!.. والمخرجة الفلسطينية ساندرا ماضي، تنتقل من فيلم إلى آخر، لرصد طراز هذه الخيبات. من خيبة بطل الملاكمة الأولمبي؛ «فرج محمود»، ابن مخيم البقعة، في فيلم «قمر 14»، عام 2006، وثائقي مدته 46 دقيقة، إلى فيلم «ذاكرة مثقوبة»، عام 2008، وثائقي مدته 61 دقيقة.
يصعد فرج محمود حلبات الملاكمة، ويخوض القتالات الرياضية العنيفة، يرسل لكمات قوية، ويتلقى مثلها.. وحتى لو انكسر أنفه، فهو ينتصر. ينتقل من انتصار إلى آخر، حاصداً البطولات المتتالية، التي تتسع دوائرها، من المخيم، إلى عموم الأردن، فالعالم العربي، وصولاً إلى الأولمبياد.
وتصعد تيريزا هلسا الطائرة "سابينا"؛ البلجيكية الاسرائيلية، المتوجهة من بروكسل إلى تل أبيب. تتشارك هي وريما وزكريا وعلي، في مجموعة فدائية تخطف الطائرة. «كان الهدف من عملية الاختطاف، هو اعتراف العالم، وعلى رأسهم إسرائيل، بالشعب الفلسطيني، وحقه بالارض، وانتزاع اعتراف بشرعية منظمة التحرير الفلسطينية، وتحرير الأسرى». تقول تيزيا، الناجية مع ريما، بعد استشهاد كلٍّ من زكريا وعلي، والتي ستمضي اثني عشر عاماً في المعتقلات الإسرائيلية.
يعود فرج، خائباً، لأنه رفض مواجهة ملاكم إسرائيلي، ولن يجد سوى عربة بيع خضار تنتظره في سوق المخيم.. وقد أرهقه مادياً شراؤه بيتاً، يؤوي إليه.
وتعود تيريزا، خائبة، وقد أضحت موظفة في الشؤون الاجتماعية.. وسيصبح المكتب هو فسحتها لممارسة ما تبقى من حياة، وتوفر لها من طاقة، تنزفها من أجل العمل على مساعدة قدامى المحاربين، والحرجى، الذين طوحت بهم الأيام إلى أدنى درك، يجترون ذكريات أيام مضت، ونضالات انطفت، وبطولات خابت.. وما عاد لهم سوى انتظار ما تتفضل به عليهم الشؤون الاجتماعية من قليل مال، و«عيديات».
في زمن الخيبات تبهت الأشياء، وتفقد معناها. ليس فقط البيانات الأولى للثورة، والعمليات العسكرية، وإعلان الاستقلال.. ليس الوطن والبيت، ولا الثورة والتحرير والعودة، فقط.. بل الحياة ذاتها.. تلك التي تتحول إلى انتظار طويل كئيب بطيء ممل.. ويتحول الكلام إلى أصوات متناثرة في هواء المكان، مع غمامات دخان سجائر تيريزا التي لا تكف عن حرقها الواحدة تلو الأخرى. بدأب. وإصرار!..
فيا لهذه المهمة التي انتدبت المخرجة ساندرا ماضي، نفسها، وأفلامها، وجهدها، ومشروعها الفني، من أجل الخوض فيها.. ليس فقط توثيقها.. بل أولاً تناولها، وعرضها، ومناقشتها، ووضعها أمام العين الباصرة، والقلوب البصيرة، لكي نرى ونفهم، لعلنا نبادر وننجو من هذه الضريبة القاسية، وهذا الزمن؛ زمن الخيبات!..
***
تكتب المخرجة الفلسطينية ساندرا ماضي شيئاً من سيرتها، بنفسها، في «موقع السينما»، فتقول عن نفسها إنها مخرجة مستقلة، وممثلة، وُلدت في عمان، لأبوين فلسطينيين، وبدأت مشوارها الفني في مجال المسرح، حيث قدمت 18 عملاً مسرحياً، وقدمت أعمالاً عديدة لمسرح الطفل، وعدة أعمال تلفزيونية.
وتذكر ساندرا ماضي، في النص ذاته، أنها شاركت بالعديد من المهرجانات العربية والدولية، وورش تدريب عالمية وحصدت عدة جوائز كأفضل ممثلة. كما عملت، في الإذاعة، معدة ومقدمة برامج، على الهواء مباشرة، وعملت في مجال التدريب على فنون التمثيل والارتجال، في عدة بلدان عربية وأوروبية، وقدمت عدة ورش في مجال إعداد مختصين للتربية المسرحية، في المدارس والمراكز الثقافية، وأنتجت عدة برامج تلفزيونية ووثائقية، لصالح عدة محطات فضائية. لتنتهي بالقول إنها الآن، تعمل مخرجة أفلام تسجيلية مستقلة، وإن في رصيدها من الأفلام الوثائقية، اليوم، ثلاثة أفلام: «بعيدا عن هنا» عام 2006، وفيلم «قمر 14» عام 2007، وفيلم «ذاكرة مثقوبة» 2008.
وعلى ما تثيره هذه النبذة الشخصية من أسىً لدينا، على الأقل لأننا لم نحظ، حتى الآن، برؤية أول أفلامها؛ فيلم «بعيداً عن هنا»، فإن هذه النبذة المتميزة، في الوقت ذاته، تدفعنا للتعامل مع فيلميها الوثائقيين التاليين: «قمر 14»، و«ذاكرة مثقوبة»، باعتبارهما جزءاً أساس من توجهها ومشروعها الفني، الذي وإن ابتدأ بالمسرح والإذاعة والتلفزيون، وفي مجالات التمثيل والإعداد والتقديم، إلا أنه تقدم باتجاه الرسو على شاطئ الفيلم الوثائقي، وصناعته!..
وأن يكون فيلم المخرجة ساندرا ماضي، التالي: أي فيلم «قمر 14» من إنتاج «المعهد العربي للفيلم»، فهذا مما يؤكد اصرارها على الدخول الاحترافي في عالم صناعة الفيلم الوثائقي، إذ انتسبت إلى أولى الدورات التي أقامها «المعهد العربي للفيلم»، في عمان، عام 2006، بحضور وإشراف نخبة من كبار صناع الفيلم الوثائقي، في العالم العربي، بدءاً من المخرج العراقي قيس الزبيدي، مروراً بالمخرج الفلسطيني ميشيل خليفي، وانتهاء بالمخرج السوري عمر أميرلاي، وهم ثلاثة من كبار الأساتذة العرب، في مجالهم، بل فاضت شهرتهم من مستوى عربي، إلى مستوى عالمي!..
التتلمذ على أيدي أستاذة كبار، من هذا الطراز، والشروع بالعمل الميداني، أي صناعة الأفلام الوثائقية.. هي فضيلة كبرى، إضافة إلى ما تتميز به المخرجة ساندرا ماضي، نفسها، من موهبة وإصرار ودأب، وجرأة وطموح وإقدام.. وهي سمات أساس لابد منها، لمن يريد التقدم على دروب الإبداع، خاصة الفيلم الوثائقي، الذي يحتاج لقدرات خاصة للتمكن إبداعياً من نسج الصورة والصوت والمؤثرات، والتعامل مع شخصيات واقعية، والدخول في عوالمها، وتمكينها من التعامل مع الكاميرا بسلاسة.
بمشاهدة فيلم «قمر 14»، للمخرجة ساندرا ماضي، ضمن باقة الأفلام التي أنتجها «المعهد العربي للفيلم»، حينها، وكانت تلك حصيلة دورته الأولى، كان من الملفت أن تلك الأفلام، على تنوعها، إنما تقدم أصواتاً عربية، شابة وطازجة وحيوية، لها رؤيتها وطريقتها ورهافتها في التعامل مع الكاميرا، كما كشفت عن الذكاء في اختيار الموضوعات، والبراعة في عرضها، والصدق والأصالة في طرحها.
أوقفت المخرجة ساندرا ماضي فيلمها «قمر 14» لمتابعة قصة الملاكم الفلسطيني/ الأردني، «فرج محمود»، ابن مخيم "البقعة"، أحد أشهر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الأردن، وحكاية صعوده إلى سدة البطولة الأولمبية، ومن ثم انهيار أحلامه، على وقع رفضه لمواجهة ملاكم إسرائيلي، في حلبات الملاكمة، الأمر الذي أنزل عليه لعنة «اتحاد اللعبة الأردني»،
تشتغل المخرجة ساندرا ماضي على التنويع في لقطاتها، وتشكيل المشاهد، ما بين اللقطات القريبة، إلى المتوسطة، والتكوينات البارعة، خاصة في اللقطات العامة، مع الميل إلى استخدام النور والعتمة والظلال، والنحت في الفراغ لبناء مشهدية متميزة، من أدوات بسيطة (كيس الملاكمة، كرسي بلاسيتك أبيض)، إضافة إلى توظيف اللقطات الأرشيفية، على محدودية جودتها، في مونتاج متوازٍ مع التصوير الذي تقوم به، بكاميرا متحركة، تميل إلى الإيحاء بالمراقبة اللصيقة، والاقتراب من الموضوع المُصوَّر، إلى درجة تشعرك الكاميرا أنها تكاد تلامسه، فضلاً عن التنويع في زوايا الكاميرا.
يبلغ الفيلم العديد من الذرى الدرامية المؤلمة، خاصة مع حالات الغضب التي تعصف بالملاكم، وقد وقع في الخيبة، في حين كان يتوقع الاحتفاء.. وأصابه الطرد وقد كان يأمل الاحتضان.. لننتهي إلى «فضيحة حقيقية»، جعلها الفيلم «فضيحة مدوية»!.. وهذا مما يثبت أهمية الفيلم الوثائقي، وقدرته على التأثير، والوصول إلى مراكز صنع القرار، وتشكيل رأي عام مساند، والمساهمة في التغيير.. التغيير، الذي هو أقصى ما يمكن الفيلم الوثائقي العمل عليه، تحقق لهذا الفيلم المتميز.
أما في فيلم «ذاكرة مثقوبة»، فكل شيء يبدو متناثراً، متشظياً، ويمضي على مهل، كما هي الحياة مشتتة بطيئة وكئيبة، وكما هي الأجساد باتت ثقيلة، تنوء بحملها العكاكيز.. ومن كانوا في زمن مضى، أبطال ساحات، وفرسان معارك، ورواد عمليات فدائية.. لم يبق لهم اليوم سوى اجترار ذكريات، واستجداء معونات، بالدمعة!..
والفيلم لا يريد أن يكون سجلاً للذكريات، ولا متحفاً للذاكرة، ولا فسحة لبطولات مضت.. إنه يريد كشف الخيبة التي آل إليها الجميع!.. حتى ننتهي إلى صرخة «تيريزا» متساءلة؛ كيف يمكن للقيادات الفلسطينية النوم، وهم يرون ما يجري؟!..