"المهاجر" رجل عائد إلى قريته يتلاعب به حوذي

المخرج عروة العربي وجد في عودة بطل مسرحيته المهاجر صورة مستقبلية للمئات من المهاجرين العائدين إلى وطنهم بعد سنوات الحرب

لمى طيارة / العرب 


رغم الظرف القاسي الذي تحياه سوريا منذ بداية الحرب بشكل عام، وبعد تفشي فايروس كورونا بشكل خاص، والذي كان سببا في شل كل مناحي الحياة بما فيها التعليمية والثقافية، أصر قسم التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية على تخريج طلبته بعرض مسرحي حضره الجمهور وفق الإجراءات الاحترازية، بعنوان “المهاجر”، أعده وأشرف عليه الفنان عروة العربي.


لسنوات مضت كان المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق، رافدا أساسيا للساحة الدرامية ليس فقط السورية وإنما العربية أيضا، العشرات من الخريجين يتصدرون اليوم شاشات الدراما التلفزيونية والسينمائية كممثلين وحتى كمخرجين، الأمر الذي جعل من الالتحاق بالمعهد للدراسة والتخرج منه حلما يراود عقول وقلوب الكثير من الشباب والشابات الطامحين إلى النجومية.

على مدار السنوات كان عرض التخرج لطلبة قسم التمثيل، وربما عروض أو “سكتشات” بعض السنوات الأخرى المكتملة، فرصة فريدة للطلبة لعرض نتاجهم على الجمهور وخاصة المخرجين والمنتجين وحتى الفنانين، كوسيلة مُثلى ومباشرة للتعريف بقدراتهم وإمكانياتهم، ولتقديمهم لسوق العمل بشكل سريع.

لكن العام 2020 لم يأت بما تشتهي السفن بالنسبة إلى الخريجين الجدد، فالأزمة التي حلت بالعالم نتيجة تفشي فايروس كورونا، أثرت بشكل مباشر على طلبة المعهد، وخاصة طلاب قسم التمثيل، الذين ليس بإمكانهم مواصلة دراستهم عن بعد، فمشروع تخرجهم الأساسي هو عرض مسرحي يقدم على خشبة ويحضره جمهور.

النص الأصلي

من هنا تحديدا تأتي ضرورة وأهمية المغامرة التي أقدم وأصر عليها قسم التمثيل في تقديم عرض تخرج لطلاب السنة الرابعة، رغم الظرف الاحترازي الذي رافقها، والذي تتطلب بالدرجة الأولى تباعدا ما بين الأفراد، حال العرض المسرحي التقليدي دون تحقيقه لأسباب درامية، بينما أُجبر عليه الجمهور الذي لم يتمكن من حضوره سوى بنسبة 30 في المئة من الطاقة الاستيعابية للقاعة متعددة الاستعمالات في دار الأسد للثقافة.

اختار عروة العربي المعد والمشرف على مشروع تخرج طلبة قسم التمثيل الفصل الثاني، نصا للكاتب اللبناني الأصل جورج شحادة بعنوان “مهاجر بريسبان” ليكون عرضا للتخرج، وعروة العربي هو أيضا خريج سابق من قسم التمثيل، سبق وأن أخرج العديد من المسرحيات التي لاقت نجاحا، كان أحدثها مسرحية “الطميمة” التي عرضت على مسرح القباني من العام 2019، كما شغل مؤخرا دورا هاما في الدراما التلفزيونية على صعيد إعداد الممثل وتدريبه.

تعتبر مسرحية “مهاجر بريسبان” التي كتبها جورج شحادة، الشاعر والكاتب اللبناني الذي أثرى تاريخ المسرح الفرنسي المعاصر وخاصة بعد أفول المسرح الشعري الفرنسي بموت رواده، آخر مسرحية ترجمت ونشرت له من ضمن مسرحياته وأعماله القليلة المنشورة، وكانت قد ترجمت إلى الألمانية وعرضت لأول مرة في العام 1965 على أحد مسارح مدينة ميونخ.

تدور أحداث المسرحية، المؤلفة من 9 لوحات، كل لوحة تتضمن عدة مشاهد، حول الغرباء العائدين إلى أوطانهم بعد سنوات من الشتات والضياع، ومهاجر جورج شحادة في النص المترجم من قبل فتحي العشري، والمنشور عن دار المعارف في مصر عام 1969، واحد من هؤلاء المهاجرين العائدين من مدينة بريسبان في أستراليا، لزيارة قريته في صقلية للتعرف على ابنه، لكن الحوذي الذي يصحبه من المحطة إلى قريته يتلاعب به، فيأخذه إلى بلفنتو القرية الأكثر جمالا من وجهة نظره.

 يعترف الحوذي بذلك في نهاية المسرحية قائلا “في الطريق بينما حصاني يعدو، فكرت هكذا قرية بقرية، ما دمت سأريه أجمل قرية في المنطقة”، لكن المهاجر التائه عن قريته، لن يكتفي بزيارة سريعة والعودة إلى المحطة، بل يقرر أن يبقى في القرية ليموت فيها ليلا وليصبح حديث القرية ومصدر نكدها وتبدل مصائرها.

قام عروة العربي بإعداد النص بطريقة جديدة إلى حد ما، لكن دون المساس ببداية ونهاية وعقدة المسرحية، ويبدو واضحا تأثره بالحرب الدائرة في سوريا، بحيث وجد في عودة هذا المهاجر صورة مستقبلية للمئات من المهاجرين العائدين إلى وطنهم بعد سنوات الحرب.

عرض بوجهين

المخرج نقل النص المسرحي وحواراته بشكل شبه حرفي
المخرج نقل النص المسرحي وحواراته بشكل شبه حرفي

في البداية جعل من الحوذي رجلا مخمورا أضاع طريقه بإرادته، فأنزل المهاجر في قرية لم تطلها الحرب، الحرب التي مهد لها المخرج بشكل مباشر منذ افتتاح العرض في مونولوج يقدمه الخريجون “من هنا مرت الحرب، مر الخراب وتغير الدرب، تغيرت ملامح الناس والعيش أصبح صعبا، هنا أصبحت البيوت متشحة بالسواد، وأصبح الصدى صمتا، هنا حتى الشمس هاجرت وأصبح شروقها غربا، من هنا مرت الحرب، فلتبدأ الحكاية”.

ومهاجر عروة العربي سيموت أيضا في القرية وسيتسبب في كارثة كبرى على أهلها البسطاء الشرفاء والفقراء، فهو المهاجر، العائد بعد سنوات من غربته ليحقق أمنيته النبيلة في البحث عن ابنه الذي هجره لسنوات وليورثه ماله، وما بين الدفاع عن الشرف والجشع تقع ماريا، إحدى نساء القرية، قتيلة، ضحية لطمع زوجها.

 حاول عروة العربي ولخدمة حبكته المعدلة دراميا، حذف بعض المشاهد من اللوحات التسع، وأضاف غيرها بحيث حقق مسألتين، الأولى ضغط زمن العرض بشكل يتماشى مع الظرف العام، أما المسألة الثانية فهي تكثيف العرض دراميا والاكتفاء بتقديم اللوحات الرئيسية التي من خلالها سيقدم مهارات الخريجين على صعيد الجسد والصوت، كما أنه أضاف حوارات جديدة لتعميق فكرته عن الحرب وتداعياتها على تلك القرية الفقيرة التي تخسر أولادها يوما بعد يوم، ليس بسبب الفقر وحده، وإنما بسبب الاستغلال الذي تتعرض له من قبل قادتها “العمدة وسكرتيره”، اللذين لا يفوتان فرصة لفعل ذلك، كل ذلك بطريقة انسيابية وغير ملحوظة ما لم يعد المشاهد إلى النص الأصلي.

ومصداقية المخرج لم تتوقف على نقل النص المسرحي وحواراته بشكل شبه حرفي، بل بالتزامه أيضا وبشكل شبه تام بالديكور الذي أرفق كلوحات مرسومة ومتخيلة للديكور في النسخة الأصلية والمترجمة للنص، والتي اعتمدت على البساطة والرمزية، بالإضافة إلى وجود العربة والحصان المخصصين لرحلة الحوذي بشكل أساسي.

على مدى ساعة من الزمن استعرض المخرج موهبة الخريجين الذين انقسموا في العروض الأربعة إلى قسمين «دوبل كاست» نظرا إلى عددهم الكبير، وهو أمر يعتبر صعبا على المخرج بحد ذاته، سواء في البروفات أو في العروض نفسها، أو حتى في الحكم النقدي على الخريجين جملة، ما لم يتمكن المشاهد من حضور العرضين معا والقيام بمقارنة، ولكن تشير مخرجاته التي شاهدناها كجمهور بعين واحدة «نظرا إلى وجود عرضين مختلفين» إلى أن عروة العربي أجاد فأخرج من بعضهم ملكات جسدية وصوتية كانت خافية سابقا، والجميل أنه رغم وجود عرضين لم يغيّب طالبا عن الخشبة، فالكل حاضر سواء بأدوار رئيسية أو ثانوية، كما استعان لإغناء عرضه بمجموعة من طلبة السنة الثانية، بالإضافة إلى استعانته بموسيقيين ومغن لتقديم الخلفية الموسيقية بطريقة حية ومباشرة.

في النهاية لا بد من القول إن خريجي الدفعة المكونين من إياد عيسى، كنان حاتم، دجانة عيسى، حسناء سالم، ملهم بشر، يزن الريشاني، إيلين عيسى، آية محمود، علي إسماعيل، حسن خليل، راما زين العابدين، ريموندا عبود، يوشع محمود، علاء زهرالدين، قدموا عرضا يليق بالمشرف، ويؤكد خبراتهم الأكاديمية التي اكتسبوها على مدار السنوات الأربع في المعهد من قبل مدرسيهم الذين أشرفوا عليهم.