لمى طيارة ..هل تتأثر صناعة السينما بمنصات العرض البديلة

 الفن السابع يتحول من الشاشات الكبيرة إلى الشاشات الإلكتروني




تعاني السينما العربية منذ سنوات أزمة اقتصادية حادة، أثرت بشكل كبير على الإنتاج كمّا ونوعا، ليس هذا فحسب بل إن التوزيع الذي يُعوّل عليه لإعادة عجلة الإنتاج، تعرض هو الآخر لأزمة اقتصادية ولكن من نوع آخر، تمثلت في تراجع ملحوظ لجماهيرية قاعات السينما، وقد عزا البعض أسبابها لوجود منصات عرض بديلة، فهل فعلا كانت هي السبب أم أن للتراجع أسبابه المتعددة؟


لمى طيارة / العرب 


منذ ما يقارب العشر سنوات، بدأت مشكلة هجرة الجمهور عن قاعات السينما، لكنها كانت هجرة نسبية إلى حد ما، فأفلام بعض النجوم واصلت جماهيريتها، في البداية كان ترجيح الأمر إلى قرصنة تلك الأفلام من خلال تصويرها أثناء العرض ونسخها لاحقا على أقراص مدمجة وبيعها بثمن بخس، طبعا لم يقتصر الأمر على الأفلام العربية بل والأجنبية أيضا وخاصة الجديد منها.

في العام 2009 تفاقمت مشكلة الأقراص المدمجة وأصبحت عبئا حقيقيا على الموزعين والمنتجين وخاصة في مصر، الدولة التي تعتبر السينما فيها صناعة في حدّ ذاتها، الأمر الذي دعا حينها المرحوم علي أبوشادي إلى الدفاع عن الجهات الفنية والرقابية مصرحا بأن تلك السرقات كانت تتم في قاعات العرض وليس في المعمل، وأن مهمة ملاحقتها تقع على عاتق رجال الشرطة وليس على المصنفات والجهات الرقابية.

فكرة بدأت من السرقة

رغم كل الإجراءات الاحتياطية التي قامت بها دور العرض لتجنب سرقة الأفلام، إلا أن الأفلام كانت تسرق، الأمر الذي دفع علي أبو شادي كمسؤول، إلى الإحساس بالخطر الحقيقي الذي كان يهدد مستقبل صناعة السينما، فقام بدعوة صنّاع الأفلام ليبحثوا عن حلول لمواجهة الظاهرة السيئة، خصوصا وأن العقوبات القانونية لهذه الجريمة بسيطة، ولا تردع أحدا.

لم يكتف أصحاب الأقراص المدمجة ببيعها تحت الأرصفة ومحال البيع، بل قاموا بتحميل محتواها على الشبكة العنكبوتية ليصبح الفيلم متاحا لأكبر عدد ممكن من الجمهور ليس فقط المصري بل وأيضا العربي.

 لاحقا التفتت بعض المنصات إلى هذا الشغف الذي لا يقتصر على شعب بعينه، فحوّلت الأمر من سرقات مشبوهة إلى منصة عرض شرعية وقانونية، ذات جودة عالية تضمن حقوق المنتجين والموزعين، مقابل أجور شهرية، فتأسست شبكة نتفليكس وشاهد نت وغيرهما، أو بشكل مجاني يعتمد أسلوب فرض مادة إعلانية على المتلقي أثناء المشاهدة.

معظم تلك المنصات حققت أهدافها بالنسبة إلى المشاهدين كما حققت بالمقابل أرباحا كبيرة لها وللمنتجين، إلى درجة باتت فيها تنتج أفلاما سينمائية خاصة بها، ولكنها شكلت عائقا لدى المهرجانات الكبيرة وعلى رأسها مهرجان كان السينمائي، خاصة عندما قررت شبكة نتفليكس إطلاق حملة إعلانية لاثنين من أفلامها المشاركة في المسابقة الرسمية للمهرجان، بينما القانون الفرنسي يفرض فترة انتظار مدتها 36 شهرا تفصل بين الإصدار السينمائي وبين البث المنزلي، وهو الأمر الذي اضطر نتفليكس لسحب أفلامها.

المنصات البديلة لم تأت فقط بالسينما إلى المنزل، بل كانت عاملا مساعدا في تحقيق الحد المعقول من المتعة والتعرف على سينما جديدة، كالمستقلة على سبيل المثال والتي كانت حكرا على المهرجانات، كل ذلك مقابل مبالغ زهيدة إذا ما قورنت بتذكرة دخول السينما ودفع أجور المواصلات لها، وهو أمر ربما ستكون له عواقبه وتداعياته على صناعة السينما، خاصة بعد انتهاء أزمة كورونا وعودة الحياة الطبيعية.

يقول المخرج المصري الشاب أحمد نادر “بعيدا عن أزمة كورونا، أصبح الذهاب للسينما بحاجة إلى قرار، فتذكرة دخول السينما باتت مشكلة حقيقية وخصوصا لمن يود حضور أكثر من فيلم سينمائي”، ويتراوح سعر تذكرة الدخول لقاعات السينما في مصر ما بين 10 دولارات في قاعات العرض العادية، و15 دولارا في قاعات “vip”، وقد تصل إلى 7 دولارات تقريبا في قاعات وسط البلد المحدودة.

 يقول نادر “صحيح أن بعض قاعات عرض وسط البلد ما زالت رخيصة، إلا أنها لا تتمتع بشاشات عرض جيدة، ولا تقوم بالصيانة بشكل دوري”، ويذكر أنه حتى العام 2008 كان سعر تذكرة دخول السينما لا يتجاوز 15 جنيها، وكان بإمكانه حينها، خاصة في أيام العيد أن يحجز 6 أفلام سينمائية على سبيل المعايدة والترفيه حتى دون أن يعرف ماهية تلك الأفلام، بينما اليوم بات من الضروري انتقاء الفيلم لأنه من غير المحتمل أن يكتشف لاحقا أنه سيء، مؤكدا على أن المنصات البديلة، وسيلة سمحت له بمشاهدة أكبر عدد ممكن من الأفلام.

أما الكاتب والمخرج المصري حازم متولي، فيهمه بالدرجة الأولى كمخرج، أن يشاهد فيلمه من قبل أكبر عدد ممكن من الجمهور ولو كان ذلك عبر منصات بديلة، إلا أنه في الوقت عينه لن يشعر بإنجاز فيلمه إلا عند عرضه على شاشات السينما ووسط حضور جماهيري، لأنه حينها فقط سيسمع أنفاس الجمهور وردة فعله، مؤكدا على أن الذهاب إلى السينما في حد ذاته هو فسحة ومتعة، والأهم من ذلك قرار شخصي، وخاصة إذا ما تعلق الأمر بنجم محدد يذهب إليه الجمهور ويدفع ثمن تذكرة السينما “من لحمه الحي مالا” ليشاهده، وهو أمر لا يمكن تعويضه وإعطائه قيمته عبر أي وسيلة أخرى.

ترتفع في أحيان كثيرة نفقات إنتاج فيلم سينمائي بسبب ارتفاع أجور النجم، فهل لهذا ارتباط بارتفاع تذكرة دخول السينما، عن ذلك يقول متولي “تقاس نجومية الممثل بحجم الجمهور الذي يأتيه راغبا إلى قاعات السينما، وارتفاع أجور النجم ليس له علاقة بارتفاع سعر تذكرة الدخول للسينما المرتبطة بشكل مباشر بدور العرض نفسها، فالنجم عادل إمام على سبيل المثال، أجره المرتفع لم يؤثر يوما على قيمة تذكرة الدخول للسينما، بل العكس هو الصحيح، وجوده زاد من نسبة حضور الجماهير وبالتالي من إيرادات الفيلم، المعادلة الإنتاجية تقوم على مقولة ‘على قد ما تكسبني تاخد مني فلوس‘، ونجم السينما بالنهاية لا يأخذ سوى نسبة صغيرة من الفيلم وهي لا تتجاوز ما قيمته 10 في المئة من صافي الأرباح”.

مشاكل السينما العربية

السينما على المنصات
السينما على المنصات

أما بالنسبة إلى دول الخليج فالمسألة مختلفة، تقول الصحافية والناقدة علا الشيخ “قبل أزمة كورونا كان العصر الذهبي لقاعات السينما مقارنة بالمنصات البديلة التي كانت محدودة ومقتصرة على نتفليكس التي اكتسحت الساحة، لكن أثناء الأزمة تغير الوضع، فهناك متابعة كبيرة ليس فقط لمنصات نتفليكس و”osn”، بل أيضا للمبادرات الفردية التي قامت بها المهرجانات أو كذلك المخرجون أنفسهم من خلال عرض أفلام نوعية مستقلة، لم يسبق للجمهور العربي مشاهدتها في قاعات السينما التجارية، والتي من شأنها تغيير وتطوير ذائقة الجمهور البصرية والحسية، لذلك من غير المعروف هل ستتأثر جماهيرية قاعات السينما بعد كورونا، وهل سيكون هذا التأثر لصالح السينما المستقلة .

عن قاعات العرض في العراق والسينما المستقلة يقول المخرج مهند حيال “لا يشكل ارتفاع سعر تذكرة دخول القاعات السينمائية، التي وصل إلى ما يقارب 9 دولارات سببا في ابتعاد الجمهور، لكن المعاناة تكمن في محدودية القاعات السينمائية الحديثة والمتطورة، المتوفرة داخل المولات، في حين ما زالت قاعات العرض القديمة مقفلة منذ فترة الحصار، بالإضافة إلى أن هذه القاعات تعرض بكثافة الأفلام التجارية الأميركية تحديدا، بينما بشكل أقل بكثير الأفلام المستقلة”، وهو كمخرج يتمنى أن يعرض فيلمه في قاعات السينما العراقية قريبا وأن لا يكتفي بالمهرجانات.

في المغرب العزوف عن قاعات السينما لا يقتصر سببه على ارتفاع ثمن التذكرة الذي يتراوح بين 5 و8 يوروهات، يقول الناقد المغربي خليل ديمون “عدم وجود قاعات سينمائية جديدة في الضواحي أو أماكن السكن الجديدة، وتمركز القاعات السينمائية في وسط المدينة، يشكل سببا لتقاعس سكان الضواحي وخاصة مع ارتفاع سعر المواصلات وخطورة العودة ليلا إلى ضواحيهم، بالإضافة طبعا إلى مشكلة قرصنة الأفلام وبيعها في السوق السوداء، ووجود المنصات البديلة، ويرى ديمون أن المتنفس الوحيد للجمهور المغربي بات عبر المهرجانات السينمائية، والمغرب لديه الآن قرابة 70 مهرجانا سينمائيا يعرض من خلاله أفلاما ذات طابع ثقافي جاد”.

أمّا في تونس فتقول الإعلامية كريمة وسلاتي “أثّرت المنصات البديلة ‘آرت 5 ونتفليكس‘ على جماهيرية قاعات السينما، لكن يبقى للشاشة الكبيرة سحرها وعناصر الجذب الخاصة بها”، مشيرة إلى أن “الجمهور في تونس لديه اهتمام خاص بالأفلام التونسية، فعندما ينجح فيلم تونسي يفرض نفسه ويدفع بالجمهور لحضوره في القاعات، والجمهور التونسي محب للسينما والكل يعرف حجم حضوره في أيام قرطاج السينمائية”.

في سوريا تعتبر المنصات البديلة حلا مثاليا لعشاق السينما وهي لا تؤثر بأي شكل على قاعات السينما التي في معظمها حكومية، وتقتصر عروضها على الإنتاج المحلي وبعض الإنتاجات العالمية من وقت إلى آخر، دون أي هدف تجاري ربحي.

أما بالنسبة إلى قاعات السينما الخاصة، فمنذ العام 2009 افتتحت في دمشق سينما سيتي التي تمتلك قاعتين مجهزتين بأعلى مستوى، وتعرض أفلاما أجنبية وعربية جديدة بالإضافة إلى عروض الافتتاح لبعض الأفلام السورية المحلية، وعلى الرغم من أن سعر تذكرة الدخول بالنسبة إلى دخل الفرد في سوريا (2500 ليرة تقريبا 1.5 دولار) ما قبل أزمة كورونا، السعر الحالي (بين 3و5 دولارات في حال كان العرض ثلاثي الأبعاد) يعتبر مرتفعا جدا، إلا أنها كانت تستقطب جمهورا كبيرا بحسب ديالا أتاسي المدير التنفيذي لقطاع السينما.

سحر السينما في القاعات
سحر السينما في القاعات

يشبه الوضع في الجزائر إلى حدّ ما الوضع في سوريا، وخصوصا في ما يتعلق بالسينما كصناعة وبقاعات السينما كملكية، يقول الصحافي الجزائري فيصل الشيباني، هناك العديد من القاعات السينمائية التي تتبع البلديات، وهي في أغلبها خارج الخدمة، ويعزو سبب غياب الجمهور عن قاعات السينما للأحداث التي ترافقت والعشرية السوداء، ولكن رغم ذلك يقول الشيباني “لدى الجمهور الحالي رغبة وتعطش لمشاهدة الأفلام في فضائها الحقيقي، رغم إمكانية متابعتها عبر النت أو حتى الفضائيات”.

ويشير إلى أن مؤسسة فنون وثقافة التابعة لمحافظة الجزائر العاصمة، “كانت تعرض قبل كورونا، آخر الإنتاجات العالمية من أفلام تجارية بقاعة “ابن خلدون” بالتعاون مع شركة خاصة، وعرفت طوابير طويلة من الجمهور المتعطش للفن السابع، وأن هذه التجربة جعلت وزارة الثقافة تعيد مراجعة سياستها مجددا مع السينما التجارية وخاصة الأميركية على حث مؤسساتها للتعاون مع موزعين من شركات خاصة لعرض هذه الأعمال في مختلف قاعاتها”.

 ولا يخفي الشيباني أن قاعات السينما في الجزائر تفتقر لأجهزة العرض (DCP) وهذا يعتبر عائقا كبيرا بالنسبة للموزعين، كما أن قيمه تذكرة الدخول لقاعات السينما الخاصة تعتبر مرتفعة، (ما يعادل 4 يوروهات تقريبا) وهو مبلغ ليس باليسير على الجمهور.

تلعب الرقابة أيضا دورا في عزوف الجمهور عن حضور الأفلام في قاعات السينما، وتتفاوت شدة الرقابة بين دولة عربية وأخرى، في الكويت على سبيل المثال وكما يقول الدكتور شريف صالح (ناقد مصري مقيم في الكويت) الرقابة المطبّقة على الأفلام السينمائية عالية الحرص، الأمر الذي يدفعنا لمشاهدة الأفلام عن طريق وسائل بديلة بشكل كامل دون أي نقص، كما أن سعر تذكرة السينما في الأيام العادية يعتبر مرتفعا، ما يعادل 10 دولارات، وينخفض إلى 5 دولارات أيام الاثنين من كل أسبوع في معظم القاعات، وهو اليوم المفضل للحضور الجماهيري في حال مرافقة العائلة.

وبالمقارنة بين ما تعرضه المنصات البديلة الشرعية من إنتاجها الخاص الذي يعتبر أكثر جرأة وأكثر تطورا واستخداما للتكنولوجيا، والمنصات غير القانونية التي تقوم بإعادة عرض أفلام الأبيض والأسود، والكلاسيكيات، فإنه يختار الأخيرة لأنها تشكل بالنسبة إليه جزءا من روح السينما التي تعوّد عليها مع كبار المخرجين.

الوضع في أوروبا

أسعار دخول قاعات السينما المرتفعة لا يتوقف على الدول العربية، بل إن دولا أوروبية عديدة تعاني من نفس المشكلة، تقول ليان شواف مسؤولة قسم السينما في معهد العالم العربي بباريس، في فرنسا بالعموم تذكرة دخول السينما تتراوح ما بين 10 و11 يورو، وهو مبلغ يعتبر مرتفعا جدا، رغم وجود بعض قاعات السينما التي يمكن الاشتراك بها شهريا وحضور الفيلم بمبلغ 5 يوروهات فقط، إلا أنه يبقى مبلغا مرتفعا وخاصة بالنسبة إلى أصحاب الدخل المحدود من عشاق الأفلام السينمائية الذين لا يستطيعون الانقطاع عن مشاهدتها داخل أماكنها الطبيعية، بالتالي يصبح الاشتراك بالمنصات البديلة كنتفليكس حلا، حيث لا تتجاوز قيمة الاشتراك فيه 8 يوروهات وهو ما يتيح متابعة عدد كبير من الأفلام.

كما أن شواف تتبنى فكرة المنصات البديلة كحل للفيلم وللتعريف به وخاصة الذي لا يحضره في القاعات إلا عدد قليل جدا من الجمهور بسبب تكلفة التذكرة، ولكنها مع ذلك ترى أن للسينما سحرها، وتلامس ذلك في العروض المجانية التي يقدمها المعهد والتي يُقبل عليها الجمهور بكثافة، وبالنسبة إليها شخصيا كواحدة تفرض عليها مهنتها مشاهدة الأفلام فإنها تفضل للسهولة مشاهدتها عبر رابط إلكتروني، ولكنها في الوقت عينه حين تكون حاضرة في مهرجان سينمائي تحاول أن تشاهد العدد الأكبر من الأفلام داخل القاعات، لأن المشاهدة عبر الشاشات الكبيرة وبمكبرات الصوت مختلفة جدا تعطي إحساسا وشعورا مغايرين تجاه الفيلم.

 في النهاية يبدو أن صناعة السينما باتت تهددها عوامل كثيرة، ليست أولها اقتصادية إنتاجية، ولا آخرها منصات بديلة تعرض وتنتج، وعلى المهتمين الأخذ بعين الاعتبار كل المؤثرات التي قد لا ينجو منها صناع السينما لاحقا.