نور طلال نصره....تكتب عن "ملخص ما جرى " المجموعه القصصية الخاصة بالكاتبة رشا عباس

الحرب، فيلم نيغاتيف، قد يكون وضعه في محلول تظهير الصور ليس بالأمر السهل، أحياناً لا نصمد أمامه، وأحياناً نواري رغبتنا في معاينة الحقيقة، مُفسحين المجال للمَشاهد أن تخترقنا وأن تجتزئ مساحتها المكانية والزمانية من هشاشتنا. 

من هذه الهشاشة تبدأ قصص هذه المجموعة للقاصة السورية رشا عباس التي تستخدم مفردات وطقوس الحرب لصالح الصورة المكثّفة بأبعادها المرئية وغير المرئية فنراها تسخر تارة وتتألم تارة، وتهرب لبلاد اللجوء تارة أخرى ثم تقول أنها تريد العودة ولا شيء سوى العودة. صدرت هذه المجموعة القصصية عن دار المتوسط في إيطاليا وحملت عنوان " ملخص ما جرى"وكأنها تقول سأفرد أمامكم ما جرى قصة قصة،.

ويبدو أنها نجحت في تجاوز بِرك الحرب الموحلة وقفزت من فوقها دون أن يعلق بها طين أو دم، متعالية على الألم الذي تبدده أمام القارئ، فهي من جيل يؤسس في الكتابة لمرحلة ما بعد المأساة برؤى حقيقة وقريبة من المنطق الذي يبدو أن الاقتراب منه قد يكون تهمة بحد ذاتها.

تبدأ القاصة من التاريخ المليء بالرؤوس المقطوعة وبالجماجم وبالأرواح التي استحضرتها لتضعها في مزهريات تزين بها شرفات قصصها أو لترمي بها أمام باب القارئ الذي يحاول أن ينجو من الرصاصات الست في القصة الأولى إلاّ أنه كائن بسيط كان يظن أن دمشق بعيدة عن سيوف التاريخ إلى حين زيارة المعتمد بن عبّاد لها فيصحو ليجد نفسه في حديقة " المعتمد بن عبّاد الملأى بالرؤوس المحصودة". ثم تعود لتنبش في تاريخ نساء دمشق اللاتي لطخن وجوههن بالطين عندما سقطت المدينة بأيدي المغول لإخفاء وجوههن عن الغزاة في القصة السادسة.

تتحدث في القصة الثانية عن الصفعة الأولى للحرب على لسان فتاة تحتاج لنظارة طبية في رمزية وكأننا جميعا نحتاج لهذه النظارة لنعي ما يحدث حولنا، نحن الموهومون أننا نعيش في بقعة صغيرة من مدينة كبيرة كدمشق ولا يعيننا ما يحدث خارج حدود نظرنا. الحرب التي هدمت أسوار الوهم حولنا وكشفتنا على واقع مؤلم دون مقدمات فكان الأمر كالصفعة على وجه بارد، أدركنا بعدها أننا لسنا بمنأى عن أي شيء وإن كنا تحت الماء فقد تطالنا " قذيفة شيلكا طائشة".


تتطرّق الكاتبة لموضوع الخلل الأسري وتعرّي مظاهره الخداعة وصولاً للتفكك والانحلال المجتمعي المغلّف بالمظاهر الدينية والقشور الخاضعة لمنظومة الأخلاق المبتدعة. في وسط ينظر إلى المرأة ويعاملها أنها شيء طافٍ وجذورها معلّقة في الهواء إذا ما حاولت الخروج عن هذه المنظومة جرّاء دوافع موجودة أصلاً داخل الأسرة المفككة وداخل المجتمع المنخور. ترسم مشاهد حيّة عن الظلم الواقع على كاهل المرأة الضعيفة كما يظهر جلياً رفضها للموروث وتمردها على العقلية الذكورية البالية وتعرية ظاهرة مناكفة المرأة لشريكتها حيث تقف المرأة المتضعضعة فكرياً تساند الرجل في فحشه الذكوري ولا تنبس ببنت شفة عندما يتعلق الأمر بامرأة مثلها. 

تحرص القاصة على التنقل بين الطوائف في سوريا وتجعل من مكونات هذه الفسيفساء السورية ساحة واسعة لأحداث كثيرة تبدو جميلة في تشكيلها ومظهرها وشائكة في عمقها وتشعبها. تستكمل في سرد ما جرى لتتوقف عند امرأة في غرفة التعذيب وهي تعزي نفسها وألمها بأنها قادرة أن تحبس أنفاسها في وجه الكهرباء التي تُصعق بها لكنها لم تكن قادرة أن تصدّ كهرباء الحب التي تنعش كيان العاشق في مفارقة مؤلمة.

تولج القاصة قارئها في مونولوج درامي بالأبيض والأسود لقصص متداخلة تدور حول نفسها بإيقاع متواتر حتى يتبادر لذهنه أنها تروي قصة فتاة واحدة لم تخرج الحرب من داخلها، تمضغها بتؤدة وأحياناً تلف ما علق بذهنها لتدخنه في سيجارة محلية الصنعوتنفث نثرات الورق العالق على شفتيها، فنلاحظ أنه في بعض القصص ثمة راوٍ وحيد، صوت واحد ونبضة قلب وحيدة تتوقف في نهاية القصة.

في قصة " جو دو" تتحدث عن الخوف في بلاد اللجوء، الخوف الذي يلازم اللاجئ، خوف من الماضي البائس وكأنه شبح يلاحقه وخوف من الآتي المجهول وكأنه بؤس محتوم.ثم تنقلنا لمأساة أخرى وهي تعاطي المخدرات بين الشبّان اللاجئين في قصة " الخوذة الزرقاء"، المخدرات التي تؤدي للانتحار في أغلب الأحيان.

يتجسد الزمن كعنصر بارز في المجموعة، فقد تكون الكاتبة أرادت أن تقول أننا نحن السوريون فقدنا زمناً كاملاً لن يعود ونحن في داخلنا ملتصقون به، ذواتنا مشتتة ومستلبة. نحاول الخروج من متاهة الزمن وسحقه بأفكار قد تنقلنا لمبتغانا إلاّ أننا لا نكاد نخرج من الدائرة حتى نعود للمشهد ذاته، الزمن الذي ينبش من داخلنا ما أردنا أن نحتجزه رهينة خوفنا. 

بهذا نكون قد وضعنا فيلم النيغاتيف في محلول إظهار الصور وانتهت المهمة بكل قسوتها وألمها ووضوحها وما علينا سوى أن نجلس أمامه لنستعيده قصة  كما عنونته القاصة لنا " ملخص ما جرى".