نضال قوشحة الدراما التلفزيونية السورية في موسم 2009



تهاوي في الإنتاج وتصاعد في المضمون
دمشق . نضال قوشحة .

خلال السنوات الماضية وتحديدا في القليلة الماضية ، قفزت عجلة الإنتاج الدرامي في سورية درجات نحو الأعلى لتصل إلى حدود غير مسبوقة ، ففي الأعوام القليلة الماضية بلغ حجم الإنتاج السوري ما يزيد عن الخمسين عملا ، وهو الحدث الذي شكل منعطفا هاما في تاريخ الدراما السورية . ليأتي موسم العام 2009 ويقدم مفاجأة من العيارالثقيل ليتقلص حجم العمل إلى نحو ال26 عملا ، أي ما معدله نصف إنتاج السنة الماضية والتي قبلها .
من نافلة القول أن السبب في التطور الكمي للأعمال السورية في الأعوام السابقة كان سببه العامل التجاري في المقام الأول مما تجلى في دخول رساميل عربية إلى آلية الإنتاج في الدراما السورية التلفزيونية ومساهمتها في تحقيق هذه القفزة . هذا الأمر لم يستمر فالأزمة المالية العالمية أوجدت نتائجها على صناعة الدراما السورية التلفزيونية ، بحيث خف إلى حد بعيد حجم التمويل العربي ، وأحجم منتجون عربا عديدون عن الإنتاج هذا الموسم داخل سورية بداعي الأزمة المالية . كل هذا جعل الممول السوري متحملا الجهد الأكبر في عملية تمويل الدراما التلفزيونية هذا الموسم . بالمحصلة النهائية نحن الآن أمام نصف إنتاج الماضي ، وهذا مايعده كثيرون إشارة خطر هامة في صناعة الدراما السورية .
على أن الأمر اللافت في أعمال هذا الموسم هو النهضة الموضوعية أو الكيفية في نتاج هذا الموسم ، فالأعمال ال26 المنتجة في الموسم تحمل بمعظمها عوامل نجاح مهني هامة . ويمكن اعتبار ما يقارب العشرين منها في مرتبة الجيد جدا . نقول هذا الكلام بمنهج علمي بعيد عن الإنشاء العاطفي فالخارطة المنتجة تثبت ذلك . ومن الملاحظ أن الشركات المنتجة اتجهت نحو الأعمال الاجتماعية التي تلامس الشريحة الأكبر من جمهور المتابعين .
في الموسم أعمال هامة سنحاول المرور على بعضها بحسب ما سمحت به زحمة الأعمال من متابعة وبالتالي هي نظرة على نتاج بعض ما قدمته الدراما التلفزيونية السورية هذا الموسم .
في الأعمال الاجتماعية يبرز مسلسل قاع المدينة الذي ألفه محمد العاص وأخرجه سمير حسين كأحد أهم الأعمال ، نص رهيف متسق يفند الكثير من الأمراض الاجتماعية المعاصرة وإخراج واعي لخصوصية النص واستخدام جديد لتقنيات التصوير والمونتاج كأحد مقومات نجاح العمل ، في جانب آخر يبرز مسلسل هدوء نسبي لخالد خليفة وشوقي الماجري الذي يعالج قضية حساسة تتقاطع مع عالم السياسة وهي وضع الصحفيين في بغداد أثناء الغزو الأمريكي للعراق ثم احتلاله . في المسلسل نص يرصد كثيرا من مواجع الصحافة والعاميلن فيها واستعراض تفاصيل الحياة الأمنية والسياسية في العراق قبل الحرب وبعدها ، . كذلك يخرج مسلسل شتاء ساخن لفؤاد حميرة وفراس دهني الذي يعالج بشكل موثق وحميمي عديدا من القضايا الاجتماعية الحارة في مجتمعنا مستعرضا بعضا من صور العنف الاجتماعي الذي يصل للقتل بصورة مشوقة .
على جانب آخر يحقق مسلسل رجال الحسم ملمحا جديدا في عملية الإنتاج الدرامي السوري . كتب النص فواز بشير وأخرجه نجدة اسماعيل أنزور بعودة ظافرة بعد غياب مؤقت بسبب أعمال سينمائية . نجح النص في الرحيل بنا في تجربة محفوفة بالمخاطربدخوله في متهات تاريخية دقيقة ، كما فعلها أنزور وقدم في العمل جديدا يخصه وهو الإقتراب إلى اللغة السينمائية البحتة التي طالما تحدث عنها في خطاباته السابقة . قدم أنزور في العمل أجواء حقيقية غنية بالتفاصيل الحقيقية للعمل من ناحية الديكور والاكسسوار ولغة سردية راقية وسليمة ، وإيقاعا مونتاجيا سريعا ، ونقلات رشيقة بين الأحداث وهي التي أضفت على العمل رصانة تميز بها عن كل الأعمال العربية التي عالجت موضوع الجاسوسية المنجزة ماضيا وحاضرا .
في الجانب التاريخي تبدو تجربة مسلسل صدق وعده الذي كتبه عبد السلام أمين وعثمان جحى وأخرجه محمد عزيزية محفوفة بمخاطر حقيقية نظرا لخطورة الإسقاط التاريخي الذي قدمه النص ، بحيث اعتمد فترة البعثة النبوية المشرفة مناخا لتقديم قصة حب بين غانية وفارس . إخراجيا قدم عزيزية جهدا خلاقا أثبت فيه علو قامته في منصة الإخراج .
وجه آخر ظهر جليا في بعض الأعمال وهو الأداء التمثيلي المتميز لعدد من نجوم الدراما التلفزيونية السورية . باسل خياط يلعب دورا مميزا مع نجدة أنزور في رجال الحسم ويظهر بشكل هادىء ومتمكن وكذلك أيمن رضا الذي يلعب بإقتدار دور أبو عراج وأداه بشكل لن يفعله على هذا الشكل سواه . غسان مسعود يظهر في مسلسل قاع المدينة بشكل أكثر من ممتع بسبب الأداء المتزن والرفيع الذي قدمه . مسعود يثبت في عمله هذا مدى الرهافة والرقة التي يتعامل بها مع أدواره ، ، في مسلسل باب الحارة يظهر النمس مصطفى الخاني بشكل لافت مقدما شخصية تثبت قدرة الخاني على التلون في الأداء وتمكنه من أدواته . أما عباس النوري في شتاء ساخن فله مكانه متفردة في لعب دور تمكن منه ولعبه بحرفية ليست غريبة عن النوري الذي مازال نجمه يزداد موسم بعد آخر . باسم ياخور لعب في قاع المدينة دورا جديدا عليه بهدوء وتمكن ووضعه في صورة غير مسبوقة بالنسبة إليه ، وهو يكشف في الدور ملامح جديدة من مقدرته التمثيلية .
إخراجيا كان الأمر كذلك متميزا ، فنجدة أنزور فعلها في رجال الحسم وقدم لغة سينمائية راقية وجميلة وأفكارا إخراجية راقية كرست اسمه كعلامة فارقة وحصان سبق في الدراما السورية الناجحة والمتجددة دائما ، سمير حسين في قاع المدينة قدم عملا حساسا وكاميرا موظفة وذكية نقلت بالصورة الكثير من أفكار النص وكذلك المثنى صبح في مسلسل الدوامة الذي قدم أجواء بصرية دقيقة تحاكي فترة خمسينيات القرن الماضي ومن نافلة القول الإشارة إلى جهود شوقي الماجري الإخراجية المدهشة التي تضع المشاهد في حالة حقيقية مع الحدث فتبدو الصورة عنده كأنها مأخوذة من تقرير إخباري ما ، قدم الماجري في هدوء نسبي جهدا مضاعفا ليقدم صورة تنبض بالحياة الحقيقية التي تعاش الآن في العراق ضمن منظومة بصرية خلاقة برفقة مدير تصويره الخبير .
إذا فالنتيجة نوعيا كانت أهم ، والدراما الحقيقية هي التي فرضت نفسها وما انسحب هو الكم تاركا المجال لفرص إنتاجية مستقبلية يمكنها أن تطور حجم الإنتاج الكمي ، والأمل أن تتخذ شركات وصناع الدراما التلفزيونية من مستوى نتاج هذا العام انموذجا معتمدا في سياق عملها المستقبلي بحيث نصعد به نحو فضاءات أكثر تميزا وجودة لما فيه من فائدة لحركة الدراما التلفزيونية السورية بمجملها .