بينالي الإسكندرية وسط متغيرات الحركة التشكيلية المصرية




بدأت الحركة التشكيلية المصرية مع الأساتذة الأجانب الذين بدأوا بتدريس الفن فى المدارس والمعاهد منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين فانتقلت عن طريقهم معظم الاتجاهات المعاصرة آنذاك بالغرب وانتشرت خاصة التأثيرية والواقعية ثم تطورت تلك الاتجاهات حيث أصبحت حركة التمصير- أى تناول مواضيع وملامح مصرية- هدفاً اساسياً وإن اعتمدت هذه الحركة فى خطابها الفني على بنائية غربية وذلك يتوازى مع حركة المجتمع المصري نحو الاستقلال السياسي والثورة عام 1919 حين ظهرت اتجاهات فنية وفكرية مختلفة نادت بالمصرية فى كل أشكال الفنون ثم استمرت حتى قامت الثورة الثانية عام 1952 والتي تبنت فى خطابها السياسي النزعة القومية العربية والتأكيد على الهوية من خلال البحث عن التراث سواء المصري القديم أوالأسلامى أوالشعبي فرأينا اتجاهات فنية متعددة تبنت هذا المشروع وظلت سمة فنون الأربعينات حتى الستينات من القرن العشرين تنحاز لتلك الإستراتيجية فى الفن.

ومنذ أواخر الستينات وحتى الثمانينات من القرن العشرين، وجدنا تغييراً في التساؤلات لدى معظم فناني مصر الذين اتجهوا نحو الذات ومحاسبتها أحياناً أو استكشافهاً من جديد. ومن هنا، نجد أن تلك المرحلة شهدت اختفاءاً للمدارس الفنية والاتجاهات النمطية إذ من الممكن أن نسميها مرحلة تشكيل مختلف مهد لجيلي الثمانينات والتسعينات كي يكتشفا طرقاً أكثر حرية وأكثر تنوعاً عما قبل. ومع زيادة قنوات الاتصال وسهولة السفر والثورة المعلوماتية، انفتحت لجيل الشباب خاصة طرقاً ووجهات مختلفة ومتنوعة للتعبير الفنى.

وظهرت على الساحة المصرية أسماء جديدة وأدوات جديدة مثل الفيديو والتعبير الجسدي والفوتوغرافيا والأعمال المركبة. كما انفتح الشباب على معظم ما يدور فى الغرب والشرق بل وإفريقيا بما تشمله من اتجاهات معاصرة.

تعددت المنابع وازداد السؤال عمقاً وزادت غدوات المعرفة ووسائط التعبير الفنى لنجد الآن بمصر استكشافات فنية مختلفة وفهماً اكبر للغة المعاصرة وهي مازالت فى بدايتها وإن كنا استطعنا أن ننفتح ونفرض وجودنا فى محافل دولية مختلفة.

ولكن هناك عقبات عديدة توقف مسار هذا التوهج .. أولها عدم وجود راعين وقاعات عرض تكفى عدد الفنانين والتنوع الموجود حالياً بمصر.إذ يجب أن تتسع الحركة التشكيلية المصرية بتعدد وزيادة المؤسسات الفنية وقاعات العرض ووجود القيم أي المشرف الفني أو القوميسيرعلى المعارض، لتتسع الساحة لمزيد من الاتجاهات الفنية المعاصرة حتى تأخذ فرصتها للظهور .

إن تمويل الحركة التشكيلية الآن يعد صغيراً بالمقارنة بالمحافل الثقافية الأخرى للغاية إذ يعتمد القليل من الفنانين على الدعم الخاص من جهات مختلفة معظمها خارج مصر ولا يتمكن الفنان كى يتفرغ بحق لإبداعاته لو حصل على منح تفرغ. ولهذا تجد مواهب فنية حقيقية صعوبة فى الاستمرار لما يحتاجه ذلك من عناصر مالية. ومقارنة بالبيناليات الأخرى مثل الشارقة وفينيسيا وداكار وسالونوكي، نحن نحاول فى هذه الدورة أن نعيد للبينالي قوته الأولى وذلك من خلال عدة أبعاد: أولاً، البعد تاريخي الخاص بمدينة الاسكندرية وما تحمله من تاريخ خاص جداً لثقافات المتوسط. ثانياً، مصر وتاريخها العريق وريادتها للفنون العربية. وثالثاً إن البينالي هو أقدم بينالي عربي ويلي فينسيا فى حوض المتوسط. وبذلك، يستطيع البينالي أن يقف صامداً ومعبراً عن ثقافة المتوسط فى تلك البقعة من العالم. ومثلما يعبر بينالي فينسيا عن شمال المتوسط، نطمح أن يعبر بينالي الاسكندرية عن جنوب المتوسط وعن ثقافات وإبداع أصبحت لا تحدد بمكان واحد إذ أصبح المتوسط يمتد ليشمل العالم كله من خلال المد والجزر الفني.

وتأتي أهمية هذه الدورة لبينالي الاسكندرية لأننا نطرح من خلال دورته الخامسة والعشرين سؤالاً عميقاً و"تيمة" خاصة ألا وهي :

ماذا بعد؟
ماذا بعد تلك الأزمات الجديدة والمتنامية لقوى اليوم؟ وماذا بعد الانهيارات الاقتصادية الكبيرة شرقاً وغرباً؟ كيف سيصبح الشكل الجديد للأنظمة الاقتصادية التابعة فى ظل تلك الانهيارات المتوالية؟ هل هناك مكان للبحث عن سعادة الإنسان وتحسين مستوى معيشته؟ هل سيتم تجاهل الاحتياجات الحقيقية للإنسان لصالح قوى غيبية جديدة؟
ماذا بعد تلك الأطروحات التي شهدتها التظاهرات الفنية المعاصرة وسطوة الميديا على الإبداع الفني في كافة ملتقيات وبيناليات العالم التي عكست أحياناً ثقافة الالتباس وتجاهلت في معظمها التقنيات التقليدية التى حملت إبداعات ورؤى الفنانين لسنوات طويلة؟
من هنا يحقق بينالي الإسكندرية من خلال اختياراته توازناً بين التقنيات المتعددة ، منحازاً لعمق الأفكار وزاوية التناول والتعبير.
ولذلك كلف لأول مرة قوميسير عام واحد للبينالي من قطاع الفنون التشكيلية بوزارة الثقافة... كلف كي يضع الفكرة ويختار الفنانين ويحاول أن يعبر عن فن المتوسط من جملة اختياراته، طارحاً هذا السؤال على أكثر من مستوى..

محمد أبوالنجا
قوميسير عام بينالى الاسكندرية الخامس والعشرون
17 ديسمبر 2009-31 يناير 2010