مرة أخرى ، انفلات الزمن وجمال الصورة


جود سعيد في أول أفلامه الطويلة


لم يكتب جود سعيد في فيلمه الروائي الطويل الأول سيرة ذاتية ، لكنه لم يبتعد عنها وظل على تماس معها ، فيلمه التقط فكرة ذكية وحاضرة ، وهي طبيعة العلاقات السورية اللبنانية من الناحية السياسية ومنعكساتها على حياة الشعب في البلدين .
جويس\ بياريت قطريب \ سيدة لبنانية مسيحية ومطلقة وأم لبنت صغيرة ، تقف مسبقا في طرف يحمل حذرا تجاه كل ما هو سوري ولكنها لاترفض الحوار في أفكار مختلفة بل ولا تتوانى عن قبول فرصة عمل تقدم لها في سورية . من خلال هذه السيدة وعلاقتها مع محيطها السوري وعلاقة الحب التي جمعتها مع مجد الشاب السوري \قيس الشيخ نجيب \ يحاول الفيلم سبر علاقة البلدين .
مرة أخرى فيلم يقدم مجددا موضوعة التأليف على طبق ساخن ، فالنص لم يستطع أن يفرد تفاصيل الفكرة التي يريدها ، فوجهات نظر سينمائية روائية مغايرة ترى أن الفيلم غير ملزم بتقديم حكاية ما بتسلسل تقليدي \ بداية ، وسط ، نهاية \ وهذه وجهة نظر يجب تقبلها ، ولكن الفيلم أي فيلم ملزم بتقديم فكرة ناضجة ومفهومة لكي تتكامل المقولة الفكرية النهائية للنص من خلال منظومة الإرسال والإستقبال .
فكرة الفيلم تتحدث عن زمنين في جغرافية واحدة هي لبنان ، أما الزمنان فهما أحداث عام 1982 ومن ثم أحداث حرب تموز 2006 . اختار المؤلف لفكرته المميزة طريقة سرد مميزة أيضا ، وهي الرواية عبر خطين زمنيين متوازيين ومنفصلين .
هذه الطريقة معروفة في السينما العالمية والمحلية وكثيرا ما لجأ الكتاب إليها ، ولكن الخصوصية في فيلم جود أنه بنى كل فيلمه عليها ، بينما كانت ظهوراتها الغالبة السابقة كمشهد استهلالي أو مشهد واحد في متن الفيلم . طريقة جود المؤلف في الكتابة هي الأصعب مع أنها أجمل ، لكنها في الفيلم أوجدت حلا مربكا ، حيث أن زمن أحداث 1982 كان منزلقا بحيث صارت أحداث الزمن الأول في الفيلم ممتدة على مساحة زمنية كبيرة منذ عام 1982 وما بعدها بحوالي عشرسنوات ، ومن ثم أحداث تموز 2006 . وكانت أحداث الفيلم تتوالى فمشهد من هنا وآخر من هناك .
هذا كله شتت ذهن المتلقي وفقد عنصر الزمن الوحدة الإيقاعية له ، فبات مكياج الشخصيات خاصة شخصية أبو سعيد \ عبد اللطيف عبد الحميد \ مفتاح المشاهدين لمعرفة زمن الحدث ووضعه في مسار الحدث المتعلق به .

• شخصيات ملتبسة .
ضيع الفيلم في نصه خطا دراميا كان سيخدم فكرة الفيلم الأساسية بشكل كبير \ العلاقات السورية اللبنانية \، وهي شخصية السائق اللبناني الذي يعمل على خط دمشق بيروت \ مازن عباس\.
هذه الشخصية وبسبب طبيعة عملها هي على احتكاك يومي وميداني مع أطراف القضية وكان بالإمكان إستثمار وجودها بشكل أكثر فعالية خاصة في ظل معرفتها الخاصة بالسيدة اللبنانية جويس . الأمر الذي لم نلحظه في سياق الفيلم وظل وجودها أكثر من هامشي رغم الإطلالة اللطيفة التي أداها بها مازن عباس . كذلك كان الأمر مع شخصية أخرى لم يكن رسمها واضحا هي الضابط أبو مجد \ جوني كوموفيتش \ بحيث بدت صورتها كما لو أنها هاربة من أفلام رامبو. فشخصية الضابط كانت لغزا في تكوينها النفسي ، القاسي والدموي الذي يقتات العنف العسكري . هذه الشخصية لم تفهم ولم تلعب دورا جوهريا في مسار أي حدث كانت تعمل بمفهوم الحاضن أو المؤسس المحيطي لجملة أحداث . هذه الغرابة جعلتها في مسيرتها بالفيلم محط تصرفات غريبة فالغرابة لم تكن خارجية فحسب بل داخلية وسلوكية . فقامت بعدة تصرفات غريبة منها رفض الضابط تلقي جرعة تخدير من الطبيب المعالج عندما أصيب بطلق ناري ، فتمنع عنه وقذف بالمخدر بعيدا كذلك إصراره في بداية الفيلم على إرسال زوجته في رحلة قاتلة كلفتها حياتها . كذلك قيامها في أحد المشاهد بمصارحة زميل بعدم إستطاعة تحمل الحياة الهادئة دون حرب وصاحبها يرفض أن يكون شرطيا ويكاد في المشهد نفسه يوحي بأنه سيطلق النار من سلاحه على نفسه منتحرا.
على أن الغموض الأكبر الذي يعتري هذه الشخصية هو علاقته بابنه مجد الذي تعرض لحادث إطلاق نار في رأسه فقد الوعي على إثره لثلاث سنوات ، هنا يبرز تفصيل غريب غير مفهوم علميا على الأقل وهو علاقة عودة اليقظة لمجد بسماعه صوت طرطقة السلاح التي قام بها أبو سعيد فوق رأسه فهل الأمر متعلق بجينات وراثية انتقلت للابن من أبيه أم هي فكرة خطها جود في نصه دون تبرير منطقي أو علمي لها ، في كل الحالات كانت شخصية أبو مجد بحاجة للكثير من الشرح حولها .

• العمل على الصورة .
على خلاف النص نجح جود سعيد بخلق جو بصري جميل وجاذب وموظف ، كان أحيانا مبهرا ووصل الأمر به أحيانا إلى حد التكلف كما في مشهد انقطاع الكهرباء المفاجيء واستبداله بضوء المصباح الذي لايوجد له أي مبرر أو وظيفة درامية .
التناغم بين جود سعيد المخرج وجود الكوراني مديرة الإضاءة كان واضحا ، تعامل جود بحساسية مع مسألة البيئة الريفية فأدخل في فيلمه نصا ومن ثم إخراجا بيئة مدينية بالغة العصرنة وهي منزل مجد المليء بالتكنولوجيا ، وهذه نقطة تحسب له .
كانت لقطات جود منتقاة بعناية وواضح أنه بذل جهدا كبيرا في استطلاع مواقع تصويره والعناية الكبرى في صناعة كادر بصري سينمائي يحتوي على لغة بصرية عالية المستوى .
استعمل جود في آخر لقطات الفيلم فكرة جميلة وخلق معادلا بصريا ذكيا للحالة التي تابعناها في الفيلم ، فصورة مجد وجويس وهما يجتازان جسرا خشبيا معلقا وغير متوازن لها دلالاتها ، وهي تعبر بشكل سينمائي حقيقي عن مضمون الفكرة النهائية للفيلم حيث عادت جويس لبلدها لبنان وبقي مجد في بلده سورية وهما معا يتأرجحان على جسر مقلقل فوق تيار ماء جارف فكانت لقطة موحية وبديعة .

فيلم مرة أخرى يقدم محاولة نحو سينما جدية ومحترمة تحفل بطاقة الشباب وتحمل تطلعاتهم نحو صناعة أفق جديد في تاريخ السينما السورية .

نضال قوشحة