لمى طيارة ..في "ميّل يا غزيّل".. الطائفية تغتال الروح


لمى طيارة / مجلة الهلال المصري 
في عام 2009 كنت أعمل في سوريا في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP كمستشارة محلية، لتحقيق أهداف التنمية لإنشاء موقع إلكتروني حمل اسم "تواصل"، كان من أهدافه العامة تقديم مواد مرئية ومقروءة ومسموعة، تخص الشباب السوري. أتذكر أنه ما أن انتهى المشروع، حتى طرحت علي المستشارة الدولية القادمة من المركز الدولي للصحفيين في واشنطن، وهي مصرية الأصل، أن أقترح عليها سيناريو مبدئيا لفيلم تسجيلي عن التآخي والتعايش المسيحي الإسلامي في سوريا، وحين استغربت الطلب على اعتبار أنني كنت أرى من زاوية صغيرة متاحة لي، أن التعايش أمر راسخ ومفروغ منه، خاصة في ظل وجود حالات زواج متكرره بين مسلمين ومسيحيين وقبول اجتماعي لافت إلى حد ما. حينها امتنعت عن طرح أي فكرة واكتفيت بالاعتذار.

   لم يخطر في بالي حينها أن كلمة تعايش ما هي إلا وهم أطلقناه، ولاحقا صدقناه، فنحن شعب (أقصد الغالبية العظمى من المسلمين السنة) يعيش جنبا إلى جنب مع شتى الطوائف والملل الأقل عددا، لكننا لم نكن في يوم من الأيام في موقع أصحاب تلك الملل ولا حتى نعرف الكثير عن مشاعرهم ومعاناتهم الدفينة والخاصة.
 هكذا وبعد أن شاهدت الفيلم التسجيلي اللبناني "ميّل يا غزيّل" للمخرجة إليان الراهب، في الدورة التاسعة عشرة لمهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية والقصيرة (التي اختتمت يوم 23 أبريل 2017)، راودتني أطياف تلك القصة، رغم مرور السنوات، ربما لأن الفيلم تدور أحداثه في بلدة عكار اللبنانية وهي نموذج للتنوع الطائفي، وتعتبر نموذجا مصغرا ليس فقط للبنان متعدد الأطياف، ولكن لسوريا بالتوازي.
   عانى لبنان منذ الحرب الأهلية من الطائفية التي كانت لها آثارها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، واليوم يعاني لبنان إلى جانب تلك المشاكل، وضعا اقتصاديا مترديا في ظل الأحداث الجارية في سوريا منذ مارس 2011، بسبب اللاجئين السوريين وتدني أجور العمال وغيرها، لكن هناك مناطق في لبنان أكثر تضررا سواء على صعيد طائفي أو على صعيد الاحتكاك المباشر بسوريا بسبب موقعها الجيوسياسي. وهي المناطق التي ارتأت إليان الراهب أن تكون موضوعا لفيلمها الذي جاء بعد زيارتها المتكررة لعكار وتعرفها على المنطقة وعلى بطل فيلمها هيكل.
 ويبدو لمن تابع مسيرة المخرجة أنها تسعى وراء قضايا مصيرية تحكم لبنان، البلد الصغير نسبيا الواسع الطيف طائفيا، الغني ثقافيا الجميل جغرافيا، إنه البلد الساحر بكل ما تحمله تلك الكلمة من معنى، لكنه ليس كذلك بالنسبة للبعض من اللبنانيين، على الأقل بالنسبة إلى إليان نفسها التي كانت ومازالت تحاول الكشف عن المستور، وإزاحة الستار عن قشرة زائفة تغطي وجه ذلك البلد الساحر، فيتضح ذلك منذ فيلمها (ليالي بلا نوم) الذي استحضرت من خلاله أحداثا جرت عام 1988 عقب الاجتياج الإسرائيلي للبنان وما تبعه من معارك واشتباكات وخصوصا قضية المخطوفين، وحاولت كشف أسرار الطوائف وأسرار الدين التي لا يمكن البوح بها، وقد سعت لملاحقتها بعد أن شكلت بنظرها سببا رئيسيا في الحرب الطائفية.
   أما في فيلمها الجديد "ميل يا غزيل" فطرحت قضية الطائفية من زاوية أخرى أكثر تركيزا ومباشرة، في ظل مستجدات سياسية جديدة طرأت على لبنان عموما وعلى المنطقة التي دارت بها أحداث الفيلم خصوصا، عادت المخرجة لتطرح قضية قديمة جديدة ألا وهي قضية الأرض والانتماء، من خلال شخصية هيكل (مزارع وصاحب مطعم) يعيش في عكار، وهو رجل كبير في السن ولكنه مازال يتمتع بقوة الشباب التي فطر عليها نتيجة ولادته وحياته وسط الطبيعة، وطوال فترة بنائه عمارة حجرية سكنية خصصها لنفسه ولأولاده الذين هجروه وهجروا الأرض إلى الخارج. وينتهي الفيلم في اللحظة التي ينهي فيها تلك البناية.
وهيكل الذي كان جنديا في عامي 1973 و1974 في تنظيم جيش لبنان العربي (الذي لم يعمر طويلا)، والذي حارب الفلسطينيين ومن ساندهم، يعي تماما أن الحرب الأهلية التي قامت في لبنان على أساس طائفي كانت السبب الرئيسي في خرابه حتى اليوم، ولكنه رغم ذلك مازال متمسكا هو وغيره بالأرض رغم كل الظروف التي تعيشها بلدته عكار وخاصة منطقة (القبيّات) المرتفعة قليلا المطلة على جزء من سوريا، والتي يشكل موقعها الجيوسياسي حاليا تأثيرا على حياة الفقراء وخاصة المزارعين وبائعي الأغنام (هيكل واحد منهم)، في إشارة غير صريحة وربما جاءت عفوية، لإدانة البعض من اللبنانيين الذين يساعدون تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على التنفس بل العيش، حين يسمحون لهم بالمتاجرة بخيرات سوريا، لكسب المال على حساب اللبنانيين أنفسهم، في ظل ظروف أمنية سيئة وعدم قدرة الجيش على وضع حل لها بسبب انشغاله في مناطق أكثر سخونة كعرسال (منطقة حدودية أيضا مع سوريا) وغيرها، بحسب هيكل.
    كما يتطرق الفيلم إلى آفة العصر، ألا وهي الطائفية التي أحاطت لبنان وقسمته على صعيد سياسي واجتماعي بل إداري وديموجرافي، ورغم أن مشكلة بيع الأراضي وتقسيمها قضية مخيفة أثارت اهتمام وسائل الإعلام اللبنانية إلا أن الفيلم أظهرها على أنها مسألة وقت على الأقل بالنسبة لهيكل الذي كان قد اشترى أرضا عليها خلاف عقاري، ورغم أنه خسر القضية، إلا أنه مازال يستصلح تلك الأرض، وسيستمر كذلك إلى أجل غير مسمى بحسب أنطوان (أحد أفراد العائلة صاحبة الحق في الأرض)، في حين يبيع بعض سكان ضيعة (القبيّات) أراضيهم للجيران (يعني المسلمين السنة) ولبعض الغرباء من خارج المنطقة.
   كما يطرح الفيلم قصة عكار، البلدة التي باتت تعاني عقدة النقص بسبب غياب وهجها التاريخي وما لحقها من فقر سياسي واجتماعي ومعنوي، نتيجة لدخول المسيحيين كأطراف في الحرب الأهلية. وقد حاولت إليان الراهب عبر الصورة السينمائية أن تظهر جمالية تلك المنطقة التي يفتخر من بقي من سكانها بغاباتها الممتدة والتي حاول أهل السنة أنفسهم سابقا الحفاظ عليها في الوقت الذي قرر المسيحيون الموارنة مغادرتها كما تذكر إحدى شخصيات الفيلم الذي حصل على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان دبي (2016)، وجائزة لجنة التحكيم في مهرجان الإسماعيلية (2017)